“تصوّر أنك صادفت مجنونًا وادّعى أمامك أنّه سمكة، وأننا جميعا سمك. أتراك تجادله؟ أتراك تتعرّى أمامه لتقنعه بأنك لا تملك زعانف؟ أتراك تقول له صراحة ما تفكر فيه؟ هيّا قل لي! لو أنك قلت له الحقيقة فحسب، واقتصرت على إخباره برأيك الحقيقي فيه، فمعنى هذا أنك توافق على الخوض في نقاش جاد مع مجنون، وأنّك أنت نفسك مجنون كذلك”.
ينطبق هذا بالضبط على علاقتنا بجارنا الشرقي. فإذا أصررنا كمغاربة أن نقول لحكام الشقيقة الجزائر الحقيقة بصراحة، فهذا معناه أنّنا نأخذهُم في كل ما يصدر عنهم من حماقات على محمل الجد.
وأخذُ شيء غير جاد على محمل الجدّ معناه أننا نفقد كل جدّيتنا. فأنا مضطر للكذب كي لا آخذ مجانين على محمل الجدّ وكي لا أصاب أنا أيضا بالجنون.
ينفعنا جدا منطق “غراميات مرحة” لميلان كونديرا لفهم ما يصدر عن حكام الجزائر.. ليس فقط لنتعلم كيف نُداريهم حتى ولو لم نكن في ديارهم.. ولكن فقط كي لا نصاب بالحمق ذاته الذي نعيب عليه جارتنا.
السياسة الخارجية المغربية في أغلب مساراتها كانت براغماتية ومتعقلة وفيها الكثير من الكبرياء وتنأى بنفسها عن الغوص في مستنقع الردود الانفعالية، بشهادة التاريخ خلال مختلف الوقائع، لم تتسم مواقف السياسة الخارجية المغربية إلا فيما ندر، بالتسرع والردود الانفعالية، من جهته ظل الإعلام الوطني بعيدا عن ترّهات اللحظات السياسية المتشنجة بين المملكة والجزائر، وكثيرا ما اتخذت الدولة قرارات تأديبية وصلت حد المحو من المشهد السياسي كما في واقعة صلاح الدين مزوار حين تم التعبير عن رأي اعتبر مسيئا للجزائر في عز محاولة إعطاء إشارات إيجابية تُجاه حكام الجزائر.
أعتقد أنه علينا الحفاظ على هذا المستوى من النبل ومراعاة الجورة والطعام، حتى ولو اعتقدت الجزائر أننا سمكة، وأننا مجرد نظام مخزني عتيق ورعاياه الذين هم نحن نستجدي رحماته ونخنع له في ذل واستكانة، وليس لدينا سوى الخنوع وأننا نستهلك الكيف وباقي أشكال المخدرات لننسى مشاكلنا، وأننا بلد توسعي يحن إلى خريطته الإمبراطورية ولو أن بلدنا شهد وزيعة نادرة بين الدول الإمبريالية بشكل تم تقزيم خريطته بقص الصحراء في الجنوب واقتطاع جزء من ترابه الشرقي ولا زال حتى الآن يعاني من وجود مدينتين سليبتين وجزر غير محررة في شماله و… ولنقل إننا سمكة ولدينا زعانف.
رُزقنا أو رزئنا بجار يمارس قادته السياسة كما لو يخوضون حربا بأسنان سمك القرش وبدموع التماسيح وقرون الوعل ووحشية الضباع، هل ننزل لذات الدرك العدواني لنكون في مستوى الصراع؟ هل نلجأ لنفس أساليب اللعب الصغير الذي لا يحفظ العهد ولا يصون الود.. أقول لا، علينا أن نحافظ على نبل السياسة وألا نرسخ طابع العداوة التي حاول أن يصنع منها القادة العسكريون الذين حكموا الجزائر، محور سياسة دولة بكل أجهزتها وميزانياتها الضخمة وأطقمها البشرية الوفيرة..
تصوروا لو أننا سخرنا كل إعلامنا وجهود دبلوماسيتنا، لكي نرد على اتهام الجزائر للمملكة بالتسبب بحرائق غابات الشمال؟ غدا قد تعتقل شرطة الحدود حمارا تائها دخل التراب الجزائري، وكيف سيجري اعتقاله واستنطاقه وتسخير التلفزيون الجزائري لاتهام الحمار بالعمالة للمخابرات المغربية، أو الرغبة في إغراق الجزائر بالحمير، كما تتهمه بإغراقها بالمخدرات؟ أين سيصل بنا الخُبل؟ وأي انحدار سنصل إليه؟
إن الحفاظ على الرزانة المعهودة في السياسة الخارجية وتخليص لغة الإعلام المغربي من الروح العدوانية التي أغرقت بها الجزائر كل مساحات الود وقرابات الدم الموجودة بين البلدين، ضرورية الآن بل وملحة، كي لا نتفل على المستقبل.
لِنَعِشْ فرِحينَ، لا نكرهُ مَنْ يكرهوننــا.
وبينَ مَن يكرهوننــا، نعيشُ أحراراً من الكُرْهِ.