ليست “سجون خاصة” عنوانا عابرا في رف الأدب، بل مرآة تنكسر فيها صور القيد بأنواعه، من زنزانة رسمتها الجغرافيا إلى زنزانة حفرتها الذاكرة في الجسد والوجدان.
في هذا العمل، لا تكتفي فوز أبو سنينة بتعرية الواقع، بل تنصت إلى أنينه، تحاور جراحه، وتصغي لأسئلة الذات والهوية والانتماء. هنا، تصبح الكتابة خيط نجاة من العتمة، لا بحثًا عن ضوء خارجي، بل تفتيشا عن شرارةٍ تنبع من الداخل.
إنها شهادة امرأةٍ تنتمي إلى شعب يعبر الجحيم، وامرأةٍ تكتب لتقول: لا خلاص من الأسر، إلا بالكتابة التي تحرر ما لم يجرؤ أحد على تحريره.
بين سطور هذه القصص، نجد لمحات من الوجع الشخصي والجماعي، وتمر عبرها خيوط الحنين، محاولات لفهم ما لا يفهم، أو على الأقل لتسميته. فلسطين وغزة في خلفية هذا المشهد، تظلان حاضرتين، يشبهان الجمر المخفي تحت رماد الكلمات.
الكاتبة فوز أبو سنينة، فلسطينية-أردنية ولدت في القدس الشريف، وتعيش حالياً في إيطاليا، تحمل في قلبها هموم وطنها ووجع شعبها. أصدرت مجموعتين قصصيتين؛ الأولى بعنوان “كسرة من روح” عام 2023، والثانية “سجون خاصة” عام 2024 عن دار فضاءات.
تكتب لتسليط الضوء على القيم الإنسانية وتوثيق التحديات التي تواجه الأفراد والمجتمعات، مع الأمل في أن تترك كتاباتها أثراً إيجابياً في قلوب قرائها. وحازت على العديد من الجوائز والتكريمات..
تتأمل “سجون خاصة” في قضايا إنسانية كبرى، وتسلط الضوء على السجون التي يخلقها المجتمع داخل النفس البشرية: من الظلم الاجتماعي إلى الصراعات الداخلية، ومن الحروب إلى التحديات الشخصية. في هذه المجموعة القصصية، تتعدد السجون وتختلف أشكالها، ولكن تتوحد جميعها في سعي الإنسان للتحرر.
سنغوص مع الكاتبة في عالم هذه القصص، ونكشف عن المفاتيح الخفية التي تحملها بين سطورها، لنسبر أعمق أسئلتها ونفهم كيف يمكن للحرية أن تروى من داخل القيد.
في هذا الحوار، نحاول أن نستخرج المفاتيح الخفية لهذا النص المركب، ونغوص في أعمق أسئلته.. ومن بينها تقاطع المعنى بين السجن في “سجون خاصة “وبين السجن الجماعي الذي يعيشه الفلسطينيون ومايحصل لغزة من دمار وخراب وإبادة…
وإليكم نص الحوار
كيف تتشكل فكرة “السجن” في هذه المجموعة بوصفها مفهومًا رمزيًا يتجاوز الجدران ليصبح حالة ذهنية أو مجتمعية؟
“السجن” في كل أشكاله هو قيد للروح والجسد، هو العزلة وتوقف الحياة بصيغتها الطبيعية والمعتادة. السجن هو الظلم أحياناً والعدل أحياناً أخرى. لذلك انطلقت هذه المجموعة من تلك الصفات للسجون، في محاولة لتجاوز الجدران والأسوار، وتحويلها إلى فكرة، وإلى حالة ذهنية، تعيشها الشخصيات ضمن ظروف اجتماعية مفروضة عليها تغلفها في مجملها الجدران الوهمية، عدا قصة “حيوات مؤجلة” التي تصف السجن الحقيقي، ومأساة الإنسان في المعتقلات.
في كثير من القصص، هناك توتر بين الذات والعالم الخارجي. هل ترى أن الكتابة وسيلتك لخلق توازن أو تمرّد على هذا الصراع؟
السجن يخلق الانفصال عن العالم الخارجي والتواجد في عالم موازٍ له، وشخصيات قصص المجموعة يعيشون هذا العالم بكل توتراته ومعاناته، كما أراهم، وكما يرون هم أنفسهم. وما أردته من الكتابة هنا هو التمرد على هذا الفراغ الفاصل بين العالمين، عن طريق صراع ينشأ بين هذه الشخصيات وبين أنفسها، وبينها وبين العالم الخارجي. لأن الضغط يولد الصراع، والصراع يولد التمرد الذي يخلق حافز التحرر لدى الأشخاص.
كما حدث مثلاً في قصة “عشرة كاملة” ،التي تروي معاناة زوجة مُعنَّفة من قبل زوج نرجسي يعتدي عليها لفظياً وجسدياً، ويهديها بعد كل اعتداء خاتم ألماس بلون مختلف، جمعتها إلى أن صار عددها عشرة، واستنبطت منها ومن الكلمات التي بدأت تكتبها القوة اللازمة للتمرد كبداية للتحرر.
لا أعتقد أن بإمكاننا خلق توازن ما في ظل الصراع الذي تعيشه الشخصيات وأجواء انعدام التقبل الذاتي، والقيود المفروضة عليها سواء أكان السجّان هو المجتمع نفسه؛ كما في قصة “سكر” حيث تقع المرأة الوحيدة ضحية للجهل والغرائز والاستبداد، أو الشخصية بحد ذاتها كما في قصة “هدوء عظيم” التي يبقي فيها بطل القصة سجين نفسه وسجين حياة فقدت الشغف وأبسط درجات التواصل.
تبدو شخصياتك مأزومة، لكنها صامتة. هل الصمت هنا اختيار أدبي أم هو تجسيد لعجز الإنسان أمام قسوة الواقع؟
للإجابة على هذا السؤال عليّ أن أعود مرة أخرى إلى فكرة السجن، وإلى الحاجة فيه إلى استخدام كل ما هو غير مسموع وأحياناً غير مرئي أيضاً للتعبير عن نفسك، عن خوفك، عن ألمك، عن رفضك وعن وجودك.
فكان حضور الصمت في المجموعة له شكلين؛ صمت حرفي في بعض الشخصيات؛ كشخصية عمر الذي يتعرض للتنمر في قصة “ولادة آريُس”، لكنه يعيش مستسلماً بين كتب الميثولوجيا والحوارات التي يجريها داخل رأسه مع الشخصية القوية التي يتخيل أنها من تستطيع تخليصه مما هو فيه. وصمت مجازي،كما في قصة “نيران صديقة” والتي تروي معاناة طفل يعيش وسط أسرة يتنازع فيه الأبوان، فيصمت الطفل لتروي حكايته ذراعاه وقدماه.
كان اختيار الصمت محاولةً لإظهار العجز الكبير الذي يواجه شخصيات هذه القصص في مجتمعاتنا. فالواقع القاسي هو ما يدفعنا إلى ذلك الصمت العاجز، الذي يؤدي طول مدته إلى صرخة التمرد في النهاية.
المجموعة مليئة بالإيحاءات السياسية والاجتماعية المغلّفة. هل تكتب تحت قناع التورية هروبًا من الرقيب أم رغبة في تعقيد الدلالة؟
للكاتب في مجتمعاتنا سجونه الخاصة أيضاً، والدلالات التي يستشفها القارئ من هذه المجموعة ما هي إلا ملامسة في مكان ما لسجونه الخاصة.
لقد أصبحنا اليوم مشبعين بالهموم الاجتماعية في حياتنا اليومية، ومتخمين بالأثقال السياسية من كل ما يحدث في وطننا العربي بشكل عام، إلى الحد الذي يجعل هذه الهموم والأثقال تغلف أحاديثنا اليومية الاعتيادية، و تتسرب متنكرة بين كلماتنا دون أن نشعر بذلك أو نتعمده. لذلك لستُ هنا هاربة من رقيب ولا أعمد لتعقيد المعاني، إنما أرغبُ في أن يعثر القارئ على الدلالة التي تمسه هو مباشرة.
ما العلاقة بين الحنين في بعض النصوص، والخسارة التي تتكرر في معظمها؟ وهل الذاكرة هنا خلاص أم عبء؟
الذاكرة بالنسبة لي هي عبء، أحاول من خلال الكتابة ربما الخلاص منها أو تفريغها من تأثيرها. الغربة التي أعيشها، والذاكرة بكل ما تحمله من خسارات وانجازات، بكل بياضها وسوادها، بكل النسخ التي تحملها مني وأحملها منها، تجعلان من كتاباتي مسرحاً للحنين، الحنين لكل ما تفتقده شخصيات هذه القصص، والتي تنبثق في الأساس من الخسارات المتعاقبة عليها.
كيف ترى دور المرأة في المجموعة؟ هل حضورها كان نوعًا من الانعتاق أم استكمالًا لمشهد الأسر؟
حضور المرأة دائماً كبير وقوي في كل ما أكتبه، فأنا أكتب من داخل نفسي كامرأة. لكن حضورها في هذه المجموعة كان جزءاً لا يتجزأ من مشهد الأسر العام الذي تعاني منه مجتمعاتنا بمختلف أطيافها، والانعتاق والتحرر مفتوح أمامها كباقي الشخصيات من خلال الإرادة والصراع والتمرد.
قصصك لا تُنهي العقدة بحلول واضحة. هل تؤمن بأهمية ترك القارئ معلقًا في الحيرة، أم أن النهاية الملتبسة هي انعكاس للواقع نفسه؟
النهايات المفتوحة هي انعكاس لفكرة أن لا أحد يمتلك العصا السحرية، أو المفتاح لكل سجون الشخصيات في المجموعة. كتبت هذه القصص لأضع الشخوص، وأضع نفسي معها أيضاً أمام “مرايا ” تعرّي ما في داخلنا من معاناة، ولتكون هذه القصص “صورة” مأخوذة من حياتنا لننظر إليها من الخارج ونثور.
كما أن القارئ ذكي، يمتلك من الأدوات ما تمكّنه من اختيار الطريقة المناسبة لتحرير هؤلاء المساجين الموجودين بين الصفحات، كما هو قادر على تحرير نفسه. فلكل منا سجنه، ولكل منا طريقته الخاصة في الخروج من هذا السجن، وأنا لا أرغب في سلب تلك الطريقة من القارئ حتى لا أكون سجاناً آخراً عليه.
إلى أي مدى تجد في السرد القصصي وسيلة لقول ما لا يمكن قوله في الواقع، خاصة حين يصبح الكلام محفوفًا بالمخاطر؟
لطالما كان السرد القصصي وسيلة لقول ما لا يمكن قوله في الواقع، لكنه بالنسبة لي وسيلتي للحديث مع نفسي قبل كل شيء، للبحث في أعماق المخاوف، والآمال، والتحديات والقصص التي تسكننا، انطلاقاً من هواجس العدالة الاجتماعية والقضايا الانسانية.
قد يكون السرد طريقتي أيضاً لإطلاق العنان لمشاعر لا أستطيع ترجمتها على أرض الواقع، أكثر من كونه وسيلة لقول ما لا يمكن قوله. فالمشاعر بما تظهره من حقائق تخيفني أكثر من الكلمات.
هل كتبت “سجون خاصة” كصرخة شخصية، أم تراها فعلًا جمعيًّا يتقاطع مع تجارب جيل بأكمله؟
أعتقد أننا عندما نكتب، يتقاطع ما هو خاص وحميمي فينا مع ما هو أكبر وأعمق من ذلك. عندما بدأت بكتابة سجون خاصة كان هاجسي هو إسقاط “بقعة من الضوء” وتصوير “لمحة صغيرة” من حياة أشخاص يعيشون بيننا، لا نعرف معاناتهم ولا نفهم القيود التي تكبلهم، لمنحهم التفهم والتضامن الذي تمنيت أن يكون بداية للتحرر، فوجدت نفسي أكتب صرخات شخصية تتقاطع مع صرخات الكثير من الناس، فكانت في النهاية مجموعة قصص تعبر عن صرخات إنسانية حتى لو غلفها الكثير من الصمت.
لو أعطيت فرصة لكتابة جزء ثانٍ من “سجون خاصة”، ما القفص الجديد الذي ستفتح بابه، وما السؤال الذي سيؤرقك هذه المرة؟
لم أفكر بجزء ثان لسجون خاصة، لكن وبمجرد أن قرأت السؤال بدأت الأفكار تنهمر في رأسي، وبالأخص فكرة أن السجون والسجّانين يجددون أنفسهم، ويعودون بطرق أخرى مختلفة كلما قهرهم المسجونون. لو كان بإمكاني أن أفتح قفصاً جديداً سيكون ربما مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد باتت هذه المواقع تدفع بنا إلى مجموعة من السجون النفسية والفكرية للذات، ندخلها بناء على ما يراه الأخرون فينا، وبناء على أحكام الناس وشروطهم، فأصبحنا نقيّم أنفسنا ونحكم عليها بالاعتماد على ما نراه في هذه المواقع من أشكال هي في معظمها محرّفة ومغلوطة، غيرت نظرتنا عن الدين، والأسرة، والنجاح، والفشل، والصداقة والحب والأدب وغيرها.
أعتقد أن ما سيؤرقني هذه المرة سيكون سؤال تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على فكرة “الرأي والرأي الآخر “. لقد أصبحت هذه الفكرة سجينة بيننا، ووصلنا إلى مرحلة مخيفة من عدم تقبل الأخر، والهجوم على بعضنا البعض على هذه المنصات عند اختلاف الرأي مهما كان الموضوع.
وإذا كان بالإمكان اعتبار هذا سجن، فهو خطير، وعلينا أن نتكاتف للخروج منه بسرعة، لما له من مآلات سلبية على الحاضر والمستقبل.
في ظل ما يحدث في غزة من حصار ودمار، كيف تجد تقاطع المعنى بين السجن في قصصك وبين السجن الجماعي الذي يعيشه الفلسطينيون؟
السجونُ حاضرةٌ كحالة دائمة في الفكر والوعي العام الفلسطيني، وهي جزء مهم وكبير من معاناتهم، سواء كانت بمعناها الحرفي من خلال عشرات الآلاف الذين يقبعون في المعتقلات، أو من خلال الحياة اليومية للفلسطينيين كمسجونين في مدنهم وقراهم المقطّعة عن بعضها البعض بسبب المستوطنات، ونقاط التفتيش التي يفرضها عليهم المحتل.
هذا بالإضافة لسجن اليأس الذي يشعر به الفلسطيني في الخارج، والناتج عن حرمانه من حق العودة والشعور بالذنب لأنه يعيش خارج وطنه وبعيداً عن معاناته.
فالفلسطينيون بشكل عام، وأهل غزة بشكل خاص هم في سجن جماعي كبير، ولا يملكون الحق في تقرير المصير الكامن في التحرر من الاحتلال والعيش بسلام على أرضهم. لذلك، فسجون مجموعتي لا تتقاطع فقط مع سجن الفلسطينيين، بل هي سجون موجودة داخل سجنهم الكبير، ليكونوا وكأنهم يعيشون في حلقة لانهائية من السجون.
هل يمكن اعتبار “سجون خاصة” انعكاسًا رمزيًا لمعاناة الفلسطينيين، حيث يصبح السجن ليس جدرانًا فقط، بل حالة عربية شاملة من التخاذل والعجز؟
من الممكن اعتبار سجون خاصة انعكاساً رمزياً لمعاناة الفلسطينيين، فالسجون تقبع في اللاوعي الفلسطيني ولا سلطة لنا عليها؛ فهي موجودة في صور القتل، الأشلاء، التهجير، التجويع، سرقة الأراضي والبيوت، الاعتقالات، الاعتداءات المتكررة على المقدسات، وأخيراً الصمت العالمي، والتخاذل، تجاهل ونسيان ما يعيشه الفلسطينيون عبر عقود، وما يعيشه أهل غزة من إبادة جماعية مستمرة أمام الجميع، كل ذلك يدفع بالفلسطينيين إلى سجن خاص من العجز والاحباط.
في أي قصة شعرت أن فلسطين كانت حاضرة بصمت، كوجعٍ غير معلن؟ وهل تكتبها أحيانًا من خلال رموز لا تُفهم إلا من يقرأ الألم جيدًا؟
لا يسعني هنا إلا أن أقتبس كلمات الشاعر الراحل محمود درويش صوت فلسطين رحمه الله، حين قال:
فاحمل بلادك أنّى ذهبت
وكن نرجسي السلوك
لكي يعرفوك إذا لزم الأمر
منفى هو العالم الخارجي
ومنفى هو العالم الباطني
فمن أنت بينهما؟
فمنذ أن بدأت الكتابة طفلة صغيرة، كان صوت فلسطين في داخلي يحثني على أن أتحدث عنها، عن وجعها، عن أطفالها وأمهاتها وشهدائها، حاولتُ دائماً أن أكونها، أن أعكس ذلك الصوت الذي يكبر معي ويعلو مهما ابتعدتُ. ففلسطين بالنسبة لي هي جرح مفتوح، ينزف خيطاً رفيعاً بين كل الصفحات ومن خلال كل الشخصيات دون أن أتعمد ذلك حتى.
وفي هذه الأيام، ونحن نراها قد أضحت تلك السجينة التي يقف كل العالم سجانين على باب زنزانتها، أشعر بحاجة ملحة أكثر إلى أن أستودعها في حروفي؛ فأراها حاضرةً في هذه المجموعة في صورة الفتاة المغتصبة التي لم ينصفها القضاء، وعلى هيئة الشجرة الأم التي تحمي أغصانها المتعبة معاندة الطبيعة، وفي وجوه الأطفال في مخيم لاجئين يصلّون صلاة الموت، وفي جسد السيدة الوحيدة القابعة في خرابة على أطراف الحياة، وفي روح السجين في المعتقل دون صوت، وفي الخيمة التي تحتضر في غزة أمام مرأى العالم. فتلك الرموز من الألم تمثلنا جميعاً، ويعرفها كل من ينبض قلبه بالإنسانية.
لأن فلسطين باختصار، هي كل المظلومين والمرضى والمهمشين والعابرين بجروحهم وآلامهم نحو الخلاص.