تقترب أوروبا من طي أحد أكثر الملفات تعقيداً في مرحلة ما بعد “البريكست”، مع اقتراب التوصل إلى اتفاق شامل بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بشأن مستقبل جبل طارق، الإقليم البريطاني الواقع في أقصى الجنوب الإسباني، والذي ظلّ لعقود محور نزاع سياسي وسيادي بين مدريد ولندن.
وكشف وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أمام البرلمان في مدريد أن المفاوضات وصلت إلى مراحلها الأخيرة، متوقعاً عرض الصيغة النهائية للاتفاق قبل نهاية الخريف الجاري، في خطوة وصفها بأنها “لحظة تاريخية في مسار أوروبا الموحدة”.
بين السيادة والتكامل: معادلة دقيقة
يُنظر إلى الاتفاق المرتقب باعتباره تسوية متوازنة بين هواجس السيادة الإسبانية ومصالح بريطانيا الاقتصادية، إذ يسعى الجانبان إلى إيجاد صيغة تسمح لجبل طارق بالبقاء منفتحاً على أوروبا دون المساس بوضعه البريطاني الخاص.
ويقول ألباريس إن الاتفاق “يُزيل آخر الحواجز التي تفصل أوروبا القارية عن نفسها”، في إشارة إلى الحدود الفاصلة بين إسبانيا والإقليم.
لكن هذه “الإزالة” ليست سياسية بقدر ما هي عملية وتنظيمية، إذ ستُمنح الشرطة الإسبانية صلاحيات إشراف أمني مباشر في ميناء ومطار جبل طارق، لتصبح بوابة الدخول إلى الإقليم خاضعة لمعايير منطقة شنغن الأوروبية.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة تمثل سابقة في العلاقات البريطانية الأوروبية، إذ لم يسبق أن مُنحت دولة عضو في الاتحاد إشرافاً أمنياً على منشأة داخل إقليم بريطاني، حتى وإن كان خارج الأراضي البريطانية الأم.
اتحاد جمركي جديد.. وجبل طارق يفقد امتياز “الملاذ الضريبي”
الشق الاقتصادي في الاتفاق لا يقل أهمية عن الجانب الأمني. فبحسب تفاصيل المفاوضات، سيتحول جبل طارق إلى منطقة جمركية موحدة مع الاتحاد الأوروبي، تُلغى فيها الحواجز التجارية وتُوحّد الأنظمة والمعايير التنظيمية.
وستتولى السلطات الإسبانية الإشراف على المعابر الجمركية، لضمان تطبيق قواعد السوق الأوروبية المشتركة.
كما سيفرض الإقليم البريطاني نظاماً ضريبياً متوافقاً مع قواعد الاتحاد، بما في ذلك ضريبة شبيهة بضريبة القيمة المضافة بنسبة لا تقل عن 15%.
هذا التغيير يعني عملياً نهاية عصر الامتيازات الضريبية الذي جعل من جبل طارق على مدى عقود ملاذاً مالياً للشركات والمستثمرين الباحثين عن أنظمة ضريبية مخففة.
ويقول محللون إن هذه الخطوة ستجعل الإقليم أكثر شفافية وتكاملاً مع الاقتصاد الأوروبي، لكنها في الوقت نفسه قد تُفقده بعض جاذبيته الاستثمارية السابقة.
إدارة مشتركة للمطار.. وبوابة جديدة نحو أوروبا
ومن أبرز ملامح الاتفاق إنشاء هيئة ثنائية لإدارة مطار جبل طارق، تشرف عليها مدريد ولندن بشكل مشترك، في سابقة قد تمهّد لمرحلة من الاندماج العملي بين الإقليم وإسبانيا.
وسيسمح هذا الترتيب بإطلاق رحلات جوية مباشرة بين جبل طارق والمدن الإسبانية والأوروبية، بعد أن ظلت هذه الرحلات محظورة أو محدودة لسنوات طويلة.
كما يتضمن الاتفاق توسيع مجالات التعاون في البيئة، والعمل، ومكافحة غسل الأموال، في محاولة لتحويل جبل طارق من نقطة توتر إلى جسر للتعاون الإقليمي.
دلالات سياسية عميقة
سياسياً، يحمل الاتفاق طابعاً رمزياً واستراتيجياً مزدوجاً:
فمن جهة، يتيح لإسبانيا تحقيق اختراق معنوي في ملف ظلت تعتبره جزءاً من إرثها التاريخي، دون الدخول في صدام مباشر حول السيادة.
ومن جهة أخرى، يمنح بريطانيا ضمانات عملية لاستمرار انفتاح الإقليم على أوروبا، بما يجنّبه العزلة الاقتصادية بعد “البريكست”.
ويرى مراقبون في مدريد أن الاتفاق – إذا ما تم توقيعه رسميًا – سيعيد رسم خريطة الحدود الأوروبية بطريقة أكثر مرونة، ويبرهن على أن “البريكست” لا يعني بالضرورة الانفصال الكامل بين لندن وبروكسل، بل قد يكون بداية علاقات جديدة أكثر براغماتية.
نحو مرحلة ما بعد النزاع
بعد أكثر من ثلاثة قرون من الخلاف حول السيادة على جبل طارق، يبدو أن الطرفين وجدا في هذا الاتفاق صيغة ذكية لتجاوز الجدل التاريخي عبر التعاون العملي بدلاً من المواجهة السياسية.
وفي حال إقراره قبل نهاية الخريف، سيكون الاتفاق بمثابة آخر فصل في عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويُتوقع أن يُشكل نموذجاً لتعاون مستقبلي أوسع بين الطرفين في ملفات أخرى.




