د. السفير مُحمد مَحمّد الخطّابي
فى 12 اكتوبر من عام 1492 الذي صادف سقوط آخر معاقل الإسلام فى غرناطة، وصل “كريستوفر كولومبوس” إلى سواحل (القارة الأمريكية) البِكر، وهو يحسب أنّه متّجهٌ إلى آسيا الشرقية، رست مراكبُه الشراعية الثلاثة في جزيرة غواناهاني (الباهاماس)، حصل ذلك عندما صاح جهاراً أحدُ البحّارة وهو ”رودريغو دي تريانا” بأعلى صوته من على حيزُوم سفينة “لا بينتا” ( La Pinta): (الأرض.. الأرض تبدو في الأفق) ! (Tierra.. Tierra a la vista).
وفى ذات يوم 12 اكتوبر من كلّ عام -كما هو معروف- الذي تطلق عليه إسبانيا (يوم الأسبنة Dia de la Hispanidad) هوالتاريخ الذي أصبحت تعتبره عيداً وطنياً لها حيث طفقت فيه إسبانيا في نشر وذيوع وتأصيل ثقافتها ولغتها في الشقّ الآخر من العالم وراء بحر الظلمات، الذي أضيف إلى خريطة العالم منذ ذلك التاريخ المشهود.
وفي يوم 12 اكتوبر الفارط من العام الجاري 2024 تكون قد مرّت 532 عاماً على ذكرى هذا الإكتشاف التاريخي المثير، وكلما حلّت هذه الذكرى التي اقترن إسمُها بالبحّار المغامر كريستوفر كولومبُوس الجِنْوِي (نسبةً إلى مدينة جِنوَة الإيطالية)، مثلما اقترن فتح الأندلس بالبطل طارق بن زيّاد، وبعد انصرام هذه القرون، تقف القارة الأمريكية محاولة إسترجاع أنفاسها، وإلتئام جراحها الغائرة، وتضميد جسدها الواهن المكلوم مستحضرةً أفظع مظاهر الإستعباد والإستبداد، وأبشع علامات التعسّف التي تعامل بها الغازي الأوروبّي الأبيض مع سكان البلدان الأصليّين ومع ثروات الطبيعة، والبيئة، والكنوز الحضارية العمرانية المتوارثة الضاربة فى القِدم لدى السكّان الأصليين.
إستياء وعِتاب
يرى الباحث البوليفي “خايمي باث ثامورا”: ”أنّ تاريخ القرون الخمسة الماضية، أيّ منذ أن هبط كريسطوبال كولومبوس على أرض العالم الجديد يشكّل أبرز نقاط التحوّل والدّمار في تاريخ البيئة على ظهر كوكب الأرض، كما أنّ ضحايا تلك الاكتشافات وما صاحبها من تظلّم وقسوة بالغين ما إنفكّوا يتساقطون بالملايين حتّى الآن، رغم أنه في المقابل وفي أعين الشعوب الأوروبية المعاصرة هي عندهم علامات تحضّر وتمدين، وأمارات إشراق وتنوير بما يسمّى اكتشافهم المجحف للقارّة الأمريكية الجديدة”.
ويرى الباحث البوليفي كذلك “فيكتور هيغو كارديناس” من جهته: “أنّ الاحتفالات التي يقيمها الأوربيّون عادة في هذا التاريخ احتفاء بهذا الحدث ليست سوى نقطة سوداء، ووصمة عار على جبين البشرية، فهو وبكلّ المقاييس تسجيل لتاريخ الغزو، والهلاك، وبداية حقبة استعمارية حالكة للقارة الأمريكية الجنوبية، فهذا الحدث – في نظره – جلب معه جحافل الجنود، والمغامرين، والتجّار الإسبان، والبرتغاليين، كما جلب الموتَ والدمارَ للملايين من أبناء الشعوب والقبائل الأصلية التي نشأت، وترعرعت، وعاشت على أراضي وجزر القارة الأمريكية منذ عهود سحيقة من التاريخ، تضافُ إلى تلك المظالم أنواع شتّى من ألوان القمع، والذلّ، والمهانة التي لحقت بأبناء الأجيال التي تمكّنت من النجاة من مقاصل، وسيوف، ومدافع، وأنفاط الغزاة الجدد البيض” ويشير نفس الباحث: “أنّ هناك ما بين 60 و 70 مليون هندي من السكّان الأصليين ممّن قطنوا، وسكنوا الأراضي الشاسعة الممتدّة من ألاسكا إلى أطراف القارة اللاّتينية الجنوبية تمّت إبادة معظمهم بمختلف وسائل القمع، والاضطهاد، والوحشية التي لم تعرف البشرية مثيلاً لها من قبل، في تلك المذابح الجماعية التي بدأت منذ وصول الغزاة الأوائل ضدّ السكّان الأصليين. أمّا أبناء القبائل الذين تمكّنوا من الفرار والنفاذ بعيدًا عن تلك المذابح مثل قبائل “اليانونامي” في البرازيل، وقبائل “اللاّكاندون” في المكسيك فقد تعرضوا لعمليات المطاردة، والطرد والمتابعة إلى أطراف هذين البلدين ليقيموا فيها تجمّعاتهم السكّانية بعد أن سلبوا كافة حقوقهم كمواطنين، وبنفس النمط الذي تحيا به قبائل الهنود في مناطق الشمال والوسط والجنوب من القارة اللاّتينية الجنوبية ما فتئ يعصف بهم الفقر، والعوز، والخصاصة، ويسحقهم البؤس والتعاسة والتهميش”.
ويضيف “فيكتور كارديناس”: إنّه من المُحزن، والمُؤسف أن نشهد اليوم مساحات شاسعة من أراضي القارة الأمريكية، والجزر المحيطة بها وقد تحوّلت إلى أراضٍ جرداء خالية من مظاهر الحياة الطبيعية أو البشرية من على ظهرها. ولو عاد كريسطوبال كولومبوس إلى الحياة من جديد بعد تلك القرون الخمسة العِجاف فلن يستطيع التعرّف على ذلك العالم الجديد الخلاّب الذي وصفه في دفاتر يومياته بالأراضي الخصبة المليئة بالغابات الكثيفة، والبحيرات الواسعة الصّافية، والأغصان المورقة التي تنوء بثمارها من فواكه لم يعرفها الإنسانُ الأوروبيّ من قبل..
واليوم بعد أن دمّر الغزاة أبرزَ وأجملَ مظاهر الطبيعة التي وصفها كولومبوس في مذكّراته، أصبحت معظم المناطق جرداء قاحلة مثلما حدث في جزر هايتي، كما دُمّرت في السّلفادور ما يقرب من 98 في المائة من غاباتها، وأدغالها..
وحيثما توجد مناطق مزروعة بالغابات الآن لا تخلو فيها شجرة واحدة من أمراض الخواء التي أصابت تجاويفها الداخلية، وهي الظاهرة التي تشهدها الغابات في مختلف مناطق قبائل “لاكاندون” في المكسيك على سبيل المثال وفى سواها من أصقاع هذه القارّة المترامية الاطراف”.
لقاء الثقافات: الإسبانية والعربيّة والهنديّة الأصليّة
يرى بعض المؤرّخين المُنصفين في أمريكا اللاّتينية وفى أوربا ومن العرب والأجانب على حدٍّ سواء كذلك أنّه من الاخطاء التي يقع فيها بعض الكتّاب والباحثين في مجال ما يُسمّى باكتشاف العالم الجديد قولُهم – بعد أن أجازُوا مصطلح ”لقاء” بدل ”اكتشاف” للتخفيف من وطأة وثقل ما حدث فى تلك التواريخ من مظالم وتجاوزات –: بأنّ هذا اللقاء كان بين عالمين أو ثقافتين اثنتين وهي الإسبانية والهندية الأصلية، وهذا حيف بيّن، وخطأ واضح، وأنّه من الإنصاف القول أنّ هذا اللقاء كان بين ”ثقافات ثلاث” وهي الأوربية، والأمريكية الأصلية إلى جانب الإرث العربي الزاخر والتأثير العميق للثقافة الإسلامية التي استقدمها معهم الإسبان الذين وفدوا على هذه الديار زرافاتٍ ووحدانا بُعيد الاكتشاف، يُضاف إلى ذلك الهجرات المتوالية والمتعاقبة التي حدثت فيما بعد بشكلٍ متواتر غير منقطع حيث أطلق على هذه الاراضي المكتشفة بـ ”إسبانيا الجديدة” أو “العالم الجديد”، وإسبانيا الجديدة هذه لم تقم سوى على إشعاع وآثار حضارة مزدهرة حتّى وإن صادفت نهايتها السياسية مع بداية الاكتشاف إلاّ أنها كانت لمّا تزلْ قائمةً في مختلف مظاهر الحياة وداخل الأنفس والعقول ذاتها.
ففي ذلك الإبّان، أي بعد تاريخ 12 إكتوبر 1492 لم تكن الرقعة الجغرافية الإسبانية والبرتغالية خالية من العرب والبربر المسلمين، فمنهم من استقرّ بهما متخفياً ومنهم من هاجر وفرّ بجلده، وهناك من آثر البقاء متظاهراً باعتناق الكاثوليكية، والذين نجوا وبقوا سُمّوا بالموريسكييّن فقد كان منهم أمهر الصنّاع، والمهندسين، والعلماء، والمعلمين، والمهندسين (العُرفاء ج. العريف)، وخبراء الرّي والفلاحة، والزراعة والبستنة، بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية في البلاد ليس في الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل وفي مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصة في شمالها الشرقي والغربي (البرتغال) بيد العرب المسلمين.
وهناك وثائق تؤكّد هذه الحقائق التاريخية، فكيف والحالة هذه ألاّ يحمل الإسبانُ الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذه ”التأثيرات“..؟
بل قد يصل بنا التساؤل والقول بأنّ هناك من المسلمين المغلوبين على أمرهم من هاجر مع أفواج المهاجرين الإسبان، وإلاّ من أين جاءت هذه الدّور ذات الباحات، والساحات، والنافورات العربية التي بنيت في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية..؟ و من أين جاءت هذه الاقبية، والأقواس والعقود والشبابيك والمشربيات العربية ؟ بل والأبعد من ذلك هذه الكنائس التي كانوا يبنونها غداة وصولهم ويظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح، بل لقد إستعمل بعضهم الخطّ العربي المحتوي على أشعار وحِكم وآيات قرآنية إعتقاداً منهم أنها من علامات الزينة في البيوتات الكبرى، والقصور في إسبانيا وفى مختلف البلدان الأمريكية الجنوبية، وتعلو وجهَ المرء (العربي) إبتسامة ممزوجة بالرضى والمرارة معاً عندما يجد بعض تلك الأشعار، والآيات القرآنية والحِكَم والمأثورة، والأقوال المشهورة وقد وُضعت مقلوبة على تلك البلاطات أو الرخامات أوالزلّيج !.
أدب المنفىَ داخل الوطن
من المعروف أنه كان لهؤلاء الموريسكيين أدب سرّي أو ما كان يطلق عليه بـ ”أدب المنفى داخل الوطن” وهو أدب مؤثّر وبليغ يسمّى باللغة الإسبانية الخاميادة أو الخاميّة (Aljamiada) بمعنى (العجميّة)، وقد أطلق عليه هذا النعت لأنه أدب مكتوب إنطلاقاً من اللغة الإسبانية ولكنه يستعمل حروفا ًعربية، وكان الإسبان من ناحيتهم يطلقون هذا اللفظ على اللغة القشتالية المحرّفة بمزجها بكلمات عربية، وكان يتكلّم بها عرب، وأمازيغ إسبانيا في آخر عهدهم بالأندلس ،ولمّا خشي الحكّام الكاثوليك على هؤلاء من التكاثر، أو استعادة النفوذ قرّر الملك فيليبّي الثاني ان يصدر ظهيراً أو مرسوماً ظالماً بين 1609-1614 بطرد آخر المسلمين من إسبانيا. ويشير الباحث الإسباني ”لوبث بارالت”: ”أنّ هذا القرار الدرامي المُجحف الذي إتّخذه فليبي الثاني كان سبباً في إثارة جدلٍ هائج ما زال يُسمع صداه حتّى اليوم”.
وإذا كان هذا يحدث في القرن السابع عشر (1614) أي 122 سنة من وصول الإسبان إلى ما أطلق عليه بـ“العالم الجديد” فإنّ ذلك يدلّ الدلالة القاطعة على أنّ إسبانيا عندما ”إكتشفت” أمريكا كانت لمَّا تزلْ واقعةً تحت التأثيرالعربي الإسلامي، وأن العادات، والتقاليد و غير قليلٍ من الأعراف وفنون المعمار، وأسماء الحِرف، والمهن، والصناعات والإبتكارات، والآلات البحرية، والعسكرية، والفلاحية وعشرات الآلاف من المسمّيات كانت عربية أو على الأقل تنحدر من جذرٍ أو أصلٍ أو أثلٍ عربيّ، وهي التي استُعملت في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وظلّت مُستعملة بها ولا تزال إلى يومنا هذا.
ويتحدّث الباحث المكسيكي ”مانويل لوبث دي لا بارا” في بحث له طريف تحت عنوان “عام 1492” عن التأثير العربي في الحياة الإسبانية بشكل عام خلال هذا التاريخ فيشير: ”أن حرب استرجاع غرناطة دامت 11 سنة وانتهت بانتصار الملكيْن الكاثوليكييْن (إسابيلا وفرناندو) في الحمراء في 2 يناير 1492 وكان وضع ذلك حدّا للوجود السياسي العربي الطويل في إسبانيا الذي يرجع إلى 711 م إلاّ أنّ الوجود الفعلي للعرب والبربر في شبه الجزيرة الإيبيرية لم ينته عام 1492 ففي غرناطة وحدها كان لمّا يزل يعيش حوال 4 ملايين من السكّان في حين كانت هناك 6 ملايين تتوزّع على باقي إسبانيا والبرتغال، والقسط الأكبر من هؤلاء السكّان كانوا من العرب والبربر، وكان معظمهم يعمل في الفلاحة، والصناعة، وتربية المواشي.
وكانت لديهم ثروات هائلة من أراض خصبة بفضل علومهم الفلاحية الواسعة ومجهوداتهم، وشاءت الأقدار أو الصّدف أنه في نفس ذلك التاريخ من القرن الخامس عشر بدأ عصر الإكتشافات الجغرافية الكبرى التي أضيفت على اثرها قارة جديدة إلى خريطة العالم بعد رحلة كولومبوس التاريخية حيث انهارت مفاهيم الفلسفة الجغرافية القديمة، ونظراً لقرب، بل ولتلاقي المسافة الزمنية بين سقوط غرناطة وهذا الإكتشاف (نفس السنة 1492) فإنّه لا يمكن بحال من الأحوال النظر إلى اكتشاف أمريكا بمعزلٍ أو بمنأىَ عن التأثيرات العربية الإسلامية التي كانت حديثة العهد، والتي كانت لمّا تزلْ تفعل فعلها واضحاً في المجتمع الإسباني على الرّغم من انهيار الحكم السياسي في الاندلس”.
التأثير العربيّ غداة الإكتشاف
تؤكّد الباحثة المكسيكية السورية الأصل الراحلة إكرام أنطاكي في كتاب لها بعنوان “الثقافة العربية أو الثقافة الثالثة” مدى تأثير الحضارة العربية في عملية اكتشاف العالم الجديد.وهي تسمّي أو تصف هذا الجانب المؤثّر بـ ‘الثقافة الثالثة’ وتعني بها الثقافة العربية الإسلامية التي تعتبر من مكوّنات شعوب أمريكا اللاتينية بدون منازع، وقد تفضلت مشكورة وأهدت لي هذا الكتاب الرّصين خلال عملي كقائم بأعمال السفارة المغربية فى المكسيك أوائل التسعينيات من القرن الفار..
تشير الباحثة (المكسيكية السورية) رحمها الله في كتابها القيّم عن هذا الموضوع بالحرف الواحد: ‘إنّ المكتشفين وصلوا إلى المكسيك (وباقي بلدان هذه القارّة) مستحضرين معهم ثمانية قرون من الوجود العربي والتأثير الإسلامي في إسبانيا، وإنه في كل لحظة كانوا يستعملون الكلمات العربية أو التي هي من أصل عربي وهي ما زالت موجودة ومنتشرة في هذه الربوع إلى الآن’.
وهكذا فإنّ كتاب ‘الثقافة الثالثة’ هو كتاب ثقافة وفن يضمّ العديد من الصّور التي تقدّم الدليل على الغاية من وضعه من غير استعمال خطاب مضخّم، إنه كتاب يعالج تأثيرالعرب في المكسيك وبالتالي في باقي بلدان امريكا اللاتينية بالخصوص في ميدان المعمارومختلف مظاهر الحياة الاخرى، وتقول المؤلفة في ذلك: ‘الحديث لا ينقطع عن التأثير الإسباني المكسيكي ويكاد لا يذكرون شيئاً عن الجذور الإسلامية العربية التي هي في الواقع أصل هذا التأثير’. وتقول الكاتبة انّ ‘اللقاء’ الذي تمّ لم يكن بين ثقافتين اثنتين وهي الإسبانية والهندية الأصلية وحسب كما يقال من باب الحيف والشطط.
بل كان بين ثقافاتٍ ثلاث مضافاً إليها الثقافة العربية الإسلامية.وتؤكّد إكرام أنطاكي أنّ الذين قدِموا من إسبانيا ليستوطنوا المكسيك بعد وصول كولومبوس إلى العالم الجديد كانوا بعيدين عن الحضارة، وكانوا أقرب إلى الوحشية والهمجية، وانّ الجانب المشرق الوحيد الذي جاءوا به معهم هو الإرث العربي الإسلامي، وقد طّعّم التأثير العربي في المكسيك بالهجرات العربية المتوالية التي حدثت فيما بعد حيث استقرّ ت العديد من الأسر العربية المترحّلة في هذا البلد، وما فتئ أولاد وأحفاد هؤلاء يرجعون بأبصارهم وأفئدتهم وضمائرهم إلى ماضيهم وأجدادهم وأوطانهم الأصلية وكلّهم فخر واعتزاز وإعجاب بهذا الماضي العريق.
شهادات
يشير الباحث المكسيكي “أدالبيرتو ريُّوس” في نفس السّياق: ”أنه من العبث التأكيد على مصطلح ‘لقاء عالمين’ أو ثقافتين إذ تبقى إفريقيا وآسيا بذلك خارج هذا المفهوم وهما شريكان في هذا الموضوع تاريخياً“.
ويضيف الباحث: “من الصعوبة أن يفهم الإسبان لماذا لا تزال تلهمنا مواضيع الغزو وهم يزعمون أنه ليس لهم أمثال شبيهة بما حدث مع الرّومان والعرب بالنسبة لإسبانيا نفسها، ويجهلون أو يتجاهلون، أو ينسوْن أو يتناسوْن أنّ التاريخ الذي بدأ منذ خمسمائة سنة له معنى تراجيدي في حياتنا”.
ويؤكّد الرّوائي المكسيكي الرّاحل كارلوس فوينتيس من جهته في كتابه “سيرفانتيس أو نقد القراءة” في مجال التأثير العربي والإسلامي في إسبانيا والذي إنتقل بشكل أو بآخر إلى القارة الجديدة: أنه من العُجب أن نتذكّر أن الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرّومان الضالعين عملياً في المناطق الأوربية إستعادوا مواقعهم، وحفظت أعمالهم بفضل ترجمتها إلى اللغة العربية، فضلاً عن العديد من الابتكارات العلمية والطبية في الوقت الذي كانت فيه أوروبا مريضة ويتمّ علاجها بواسطة التعزيم والرقية والتعويذ والتمائم.
ويضيف: “فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوربا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعمارية الموريسكية حيث أصبحت فيما بعد من العناصر المميّزة لخصائص الهندسة القوطية”.
يشير الكاتب الأوروغوائي إدواردو غاليانو صاحب (أوردة أمريكا اللاّتينية المفتوحة): “أنه ليس عيبًا أن يُحْتفَى باكتشاف أمريكا، ولكن ليس من أجل تكريم الملوك الكاثوليك الإسبان الذين أنشأوا محاكمَ التفتيش، والتعذيب، والتقتيل، والتنكيل المعروفين بعدم التسامح، والجهل، بل فليكن هذا الاحتفال تكريمًا لبعض التقاليد الأمريكية القديمة جدًّا، وقيم، وعوائد الأمم التي عشقت الحرية، وتعلقت بالشّرف، والكرامة، وهامت بالطبيعة، إنّ سكّان هذه المناطق من العالم كانوا يعيشون ويعملون جماعات فيما بينهم قبل أن يحدث “الاكتشاف” الذي جاء ولقّنهم الأنانية، والكراهية، والأثَرة، والتشرذم، وحقّ المِلْكية، والجَشَع، وروائع أخرى..! أو أن يكون احتفالاً بهؤلاء الذين جاءوا فاتحين مثل حالة البحّار “غونسالو غيرّيرو” الذي ظلّ تائهًا في أرض “المايا” ثم سرعان ما انخرط في مجتمع الهنود، وتزوّج منهم وكان له أولاد، وعندما علم (المكتشِف) “إيرنان كورطيس” بقصّة ذلك البحّار طلب منه الحضور فرفض، وآثر أن يظلّ مع أهله الجدد، وعائلته وأولاده، ولما كان عام 1536.
وبعد معركة طويلة بين هنود المايا والغزاة، وبين العشرات من الجثث ظهر هنديٌّ ملتحٍ، هنديّ ذو جلد أبيض، وقد شقّت جبينه رصاصة غاشمة، لقد كان “غونسالو غيرّيرو” الذي آثر أن يسقط مع مَنْ ارتاح إليهم، وأحسنوا وفادتَه، هذا الرجل هو أوّل غازٍ تمّ غزوُه، وكان هناك آخرون ظلوا في غياهب المجهول، والكتمان، والنسيان.
* كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا