آراءسياسة

نظام عالمي جديد.. لكن ماذا عن مكانتنا فيه؟

كما المخاض، ليكن الهمّ كيف يخرج النظام العالمي الجديد من دون آفات، فالمهمة ملحّة لمراقبة العملية الانتقالية، وعدم الذّهول عن تفاصيل ما من شأنه أن يرهن النظام القادم إلى مصير محكوم بالعود الأبدي.

وفي ظنّي أنّ الأقطاب السابقة للنظام العالمي القديم، ترصد مواقعها بقوة في النظام العالمي الجديد، وتمسك بتلابيب قواعد اشتباك لا نحيط حتى الآن علما بمفاتيحها، لأنّنا حتى الآن ننفعل بالأحداث ولا نرصد مآلاتها، نُستنزف في الآن حتى لا يبقى في مساحة العقل ما يصلح لتدبير مكانتنا في المستقبل.

التّأريخ والاستشراف بالأمانيّ هو أخطر آفة في التفكير المستقبلي، هذا الأخير الذي آنس بسحر الأرقام بدل الاحتمال الشديد الذي يجنّبنا بؤس المُقايسات.

إنّ حاضرا أسأنا مُقاربته، حتما هو في المستقبل لن يكون سوى تاريخا ملتبسا. الأمّة التي لم تتمكن من التحكم بحاضرها ومستقبلها، ستكون ضحية لتاريخ ملتبس في كلّ أطوارها. علينا أن ننقذ تاريخ مستقبلنا من الإلتباس، لأنّ التاريخ يؤثر في الحاضر والمستقبل، وإنّ التّطوّح في وعيه يكسبنا ارتجاجا في الوجود.

ما هو شكل النظام العالمي الجديد؟ من هم اللاعبون الأقوياء فيه؟ من هم الضعفاء في النظام العالمي الجديد؟ ما هو محصول القوة الاقتصادية لأقطابه في سياق تدهور الاقتصاد العالمي؟

سنلاحظ أنّنا لا زلنا مرتهنين للجغرافيا السياسية التقليدية، لا زلنا في سياق توقّعها واستشرافها. حتى الآن لم تتغير مطارح القوة، ولم ينزاح الهارتلاند، وكلّ أجيال الحرب تنطوي تحت جوهر الحرب الكلاسيكية وتحتفظ بوفاء لقواعد الاشتباك نفسها. فالنظام العالمي الجديد لن يقطع مع النظام العالمي الجديد، وقد نتحدث عن رخاوته فيما يتعلق بما يمكن أن نسميه بدوران الأقطاب، نظام أقل صلابة من النظام العالمي القديم، وأكثر مرونة.

وجب دراسة ملامح الوضع العربي قبيل تشكل النظام العالمي القديم عشية الحرب العالمية، هناك فقط وجب معرفة موقعنا وطريقتنا في تفكير العالم، وهل إنّنا نفكر تماما كما كنا نفكر عشية الحرب العالمية الثانية أم أنّنا تطورنا قليلا في وعينا التّاريخي؟

ما أخشاه أن نكون في وضعية التفكير تلك، أنّ النظام العالمي الجديد يتأسس على غير ما نأمله، وأنّ الطوق الذي اعتقدنا أنه سينحل من حول أعناقنا بمجرد ميلاد النظام العالمي الجديد، سيكون أشدّ اختناقا، على الأقل إن لم نكن شركاء في صناعة عالم جديد، واكتفينا بوضعية الجمهور في لعبة لا نملك حولها سوى متعة الفرجة وآلامها.

إنّ النظام العالمي الجديد ليس بالضرورة سينصفنا، ما لم نضع اليد على مفاتيحه، ونتواجد في مساراته الأولى، ونحجز مكانا على متنه. لا يكفي التغنّي بالنظام العالمي الجديد، بل الضرورة قاضية بالانخراط فيه. إن قدرا كبيرا من المناورة والإعداد لنظام عالمي جديد وحده يحدد موقعنا في عالم الغد.

اليوم نعيش مخاض هذا التحول الكوسموبوليتيكي،وحدها هذه الحقيقة التي نملكها عن عالم الغد، لكن ماذا أعددنا له، حيث لا زلنا نفكّر بديماغوجيا النظام العالمي السابق، ونمطيته في الاستقواء، في انتهازيته وتدوير زواياه.

وكان من المفروض أن نخرج من القصيدة الكلاسيكية في مديح النظام العالمي الجديد، والنظر في استحقاقات المرحلة، في ميلاد تفاصيلها الجديدة، في استشراف منطق تحولها، في تناسخ أرواحها وانقلاب ماهياتها، في احتمالاتها التي تتجاوز مُقايساتنا البليدة التي لا زالت مصرّة على تبسيط المستقبل.

المستقبل صناعة، والفاعلون ليسوا بالضرورة يكشفون عن قواعد اللعبة القادمة، من يضع قوانين النظام العالمي الجديد، وينخرط في تعديل دستوره القادم، هم يستغلون ذهول الضُّعفاء، ويأنسون بالمهرجان الشعري لجمهور الحالمين بعالم جديد لا زالوا يجهلون قوانينه. هذا طبعا لا يعزز نظرية المؤامرة، بل يحذّر من أنماطها الجامدة لصالح وعي جديد بأنماط المؤامرة الجديدة.

النظام العالمي الجديد اليوم في بداية مخاضه، لكنّه سيهرب منّا إن نحن لم نتجاوز وضعية الفرجة، وتمادينا في اعتبار المستقبل فرصة وليس صناعة. فبقدر فعلك في الحاضر تنحت لك مكانا في المستقبل. النظام العالمي الجديد سيعفينا من الكثير من استحقاقات النظام العالمي القديم، وسيفرض التزامات أخرى، وسيفتح أفقا لاحتمالات أخرى. النظرة الواقعية للمستقبل من شأنها أن تؤثر على طريقة إدارتنا للحاضر.

كانت ولا زالت الحركة التحررية في العالم ضامنا لانتقال أكثر وعيا بمطالب الأمم، كما أنّ سياسة الإلتفاف ظلّت هي الأخرى نمطا في تدبير الانتقال بالنسبة للقوى العظمى. تقسيم النفوذ، إعادة رسم الخرائط، تلغيم البؤر، صناعة الأزمة.

تراكم الفعل التحرري عنصر أساسي في لجم النظام العالمي الجديد عن أن يعيد إنتاج أنماط الاستقطاب والتحكم، بتعبير أوضح، إعادة إنتاج الموقف الإمبريالي، ووضع أواليات جديدة لسحق الأمم. حتى الآن لسنا وحدنا من ينتظر هذا النظام العالمي الجديد، بل كلّ يحبك صورة عنه، والبعض يحاول التأثير فيه.

وفي المجال العربي، هناك عائق يحول دون دخولها النظام العالمي بسلام، أعني العصبية، تلك التي كانت سمة لتاريخنا السياسي، وأيضا عنصرا في خرائب عمراننا البشري. اليوم الإقليم يترنّح أمام استحقاقات هذا الانتقال الجيوسياسي للمستقبل، لكنّ السياسة في الإقليم مصرّة على إعادة إنتاج جيوبوليتيكا الضُّعفاء، أولئك الذين ينحتون مكانة في النظام العالمي الجديد، مكانة محكومة بالوفاء لتخلفها المزمن.

حينئذ قد نتساءل: سيكون حتما نظام عالمي جديد، لكن هل ستكون المنظومة العربية العصبانية، منظومة جديدة؟ أمام العرب أن لا يتخلوا عن عصبيتهم بما أنّها بنية عميقة في تصورهم الجماعي للعالم، ولكن أمامهم فرصة إخضاع العصبية لضرب من فعل التسامي، أي العصبية في خدمة التحرر والتقدّم.

https://anbaaexpress.ma/p7wq4

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى