
حين نُخطئ تنسيب استراتيجيا الحرب، ونمنح التسلح صفة العامل الحاسم فيها، نقع في فخ المنفعة الحدية للتسلح. إنّه سباق بلغ حالة الذُّهان، ثم لم يعد قادرا على حسم الحرب.
بخلاف كلاوزفيتس الذي تحدّث عن مبادئ وقواعد الحرب التي تحدد نتيجتها، فإنّ سان تزو من قبلُ قد ركّز على عامل الإضلال والذكاء. ومع أنّ الحرب بدأت منذ فترة تشكل فضاء يعكس مهارات وذكاءات الإنسان، فهي باتت متشعبة من حيث طبيعة الاستراتيجيا والمقاربة.
ليدل هارت الذي حكم على مقاربة كلاوزفيتس بالموت، من خلال دحض فكرة أو استراتيجيا المواجهةالمباشرة بناء على معامل القوة، فلقد وضع اللبنة الأساسية للمواجهة غير المباشرة. ينطلق ليدل هارت من قناعة، وهي أنّ كسب الحرب ينبغي أن لا يكون على حساب عديد البشر والخسائر المادية. وقد اعتبر أنّ الإرتهان للقنبلة النووية وَهْمٌ، وأن الانتصار يتأكد حين يُصار إلى عقد سلام دائم.
لم يحقق الغرب استقرارا نفسيا بفعل تراكم السلاح، بل لقد زادته قوته العسكرية قلقا. لا يعتقد ليدل هارت أن ظهور السلاح النووي قد أنهى عهد الاستراتيجيا، بل راهن على تطوير النمط غير المباشر للحرب.
لقد تمت الاستفادة من آراء هذا الأخير، في ألمانيا، وأعجب دوغول بآرائه ، وكذا كيندي، بل لقد تعاون مع إسررائئيل التي تدين له بإرساء خطّة احتلال سيناء.
ما يبدو انتصارات الغرب في الحرب العالمية الثانية، هي في نظر ليدل هارت قد أتت بكل هذا القلق، وساهمت في استيلاء الاتحاد السوفياتي على عدد من دول أوربا الشرقية، كما أن استعمال السلاح النووي في هيروشيما وناكازاكي أدى إلى تطوير الاتحاد السوفياتي لسلاح مماثل.
بالنظر إلى استراتيجيا النمط غير المباشر في المواجهة، وتفادي الخسائر التي تسببها المواجهة المباشرة، نجد أن مقاربة ليدل هارت لا يمكنها أن تنجح بالنسبة لكيان محتل، إلاّ من الناحية التكتيكية على صعيد ربح معركة وليس ربح حرب. فالسلاح النووي يزيد الوضع قلقا، وغياب السلام يجعل نظرية ليدل هارت غير قابلة للتنفيذ.
فحروب الاحتلال ضدّ الدول العربية لن تلغيها جغرافيا، ولكنها في الوقت نفسه لا تنتهي بسلام شامل وعادل كما هي رغبة الأمم المتحدة، اللاّعب الأضعف في المجال الجيوسياسي. السلاح النووي عِبئ ثقيل، لا سيما في مجال جغرافي ضيق ومشتبك، فضلا عن غياب فرصة السلام بمعناه الشامل.
السلام المعتلّ الذي تفرضه الحرب بالقوة والضغط، لا يمكن أن تفرضه الصفقات، وهذا ما يؤكد أن مقاربة ليدل هارت مستحيلة التنفيذ في مثل هذه الحالة.
بل إنّ وضعية الاحتلال ستكون دائما فاشلة، لارتهانها بسياق جيوسياسي يعاني من قلق دائم، تنطبق عليه النظرية غير الاكتمالية. ومن هنا، فإنّ كل أنماط الاستراتيجيا من سان تزو حتى ليدل هارت مرورا بكلاوزفيتس، لا تصلح لإسناد الاحتلال في مواجهة وضع جيوسياسي متحوّل.
قد يكون ليدل هارت بصدد إرساء بارادايم مختلف حول الحرب، حرب تقوم دائما على الحد الأدنى من الضحايا. ومع أنّه لا حرب من دون تضحية، فالنمط غير المباشر قد يساهم في تقليل الضحايا. لكن يبدو أننا هنا إزاء فنّ ربح معركة أو عملية، فنّا تكتيكيا لا يصلح لاستراتيجيا الحرب.
تناقضات ليدل هارت واضحة، لأنّ السلام لا تنتجه الحرب، بل الشعور العام والاعتراف بالعدالة. السلام العادل هو السلام الذي يدوم. وهذا يتطلب تحليلا لنشأة الحرب.
فحتى الآن، لا زالت أسباب زعزعة الاستقرار العالمي جارية. وهنا وجب التّأكيد على موضوع الإهانة. لم يستطع القانون الدولي أن ينتج من خلال آليات تنفيذه ومؤسساته أن يحتوي أسباب الحرب. وحتى الآن، يبدو أنّنا أمام منزلق حرب عالمية لم يمنعها سوى نوعية السلاح ذي القدرة التدميرية الشاملة. لكن الإهانة في المجال الدولي استمرت، ولم يعد هناك قدر للسيطرة عليها.
تجعلنا مقاومة الهيمنة والإهانة أمام ضرورة المقاربة الكلاسيكية لفن الحرب، سان تزو، الذي اكتشفه الغرب في وقت متأخر على الرغم من أنه زبدة تعاليم عريقة في تاريخ الحرب. ومن هنا يبدو أنّ فن الحرب لا يمكن أن يرتهن لمستوى واحد من المقاربة، بل إنّ العالم بقدر ما يزداد تعقيدا يستدعي استراتيجيا لفن الحرب مركّبة.
يصعب على غير المحارب أن يدرك حقيقة خالدة في تاريخ الحرب، فحتى الأطفال، يدركون أن الاستقواء بالسلاح كعامل وحيد في كسب الحرب، يعكس خوفا عميقا.
فالتسلح ذهان يسببه الخوف الذي يسكن عالما غير واثق من أنّ منظومة القيم الحضارية قادرة وحدها على إرساء السلام، وبأنّ عالم السياسة الدولية لا تضمن استقراره اليد الخفية لأدام سميت، بل حين فقدت الحرب خاصيتها الأولى – حرب الفرسان- فقدت مخارجها أيضا: سلام الفرسان. إنّ السّلام العالمي يفرض قيما جديدة، شجاعة من أجل تفكير مختلف، تفكير الحرب وتفكير السلام على أسس جديدة. وهذه الأسس لن تقوم من دون صدام بين الهيمنة والمقاومة.
الحرب الروسية في أوكرانيا، وتطور حلف أوراسيا، كل هذا نابع من موقف الإهانة.
في الشرق الأوسط، تبدو المعضلة فائقة الأثر، فالجغرافيا السياسية هنا لم تستقرّ. التفكير في حلّ معضلة سايكس-بيكو بخريطة برنار لويس، هو مشكل إضافي. الإهانة هنا تبدو عارية، في نسق جغرافي شديد الحساسية، في جغرافيا الذاكرة العميقة حيث التاريخ، على عكس مقول ماكيندر، هو محور الجغرافيا، وحيث الاحتلال هنا بنية مغلقة آبية حتى للإندماج.
الحاجة ماسة لمقاربة أخرى لفنّ الحرب. وأرى أنّ هذا الفن كان دائما يستهين بالحدس، لأنه مفتون بالقياسية التي آلت بالعالم إلى هذا القلق البنيوي.
اليوم كلّ الخرائط والخطط باتت معروفة، وهي ليست مؤكدة، فاستدراج العدو في أي معركة ليست محسومة، كما أنّ المسافة بين ربح معركة وربح حرب اتسعت كثيرا، كما أنه لا توجد حرب بين الأحياز، بل سرعان ما تصبح حرب المكان برُمته، أي تصبح حربا ذات ارتدادات دولية.
ففي ظل جمود القانون الدولي وضعف آليات تنفيذه وهشاشة مؤسساته، وفي ظل تطور صناعة الحرب ووسائلها، نحن أمام اختلال كبير، لم يبق من رادع سوى الخوف من انقلاب سحر القوة على صاحبها، ارتهان العالم لسلاح نووي غير قابل للتنفيذ وغير قابل للتَّرك.
أنماط التسلح ونموذج الحرب الحديثة ينتج الموت والخراب، لكنه لا يصنع استقرارا وسلاما، لأنّ القوة لا تفرض أمرا واقعا في جغرافيا متحوّلة.