شادي منصور
اتفاق الطائف ليس نصًا منزّلًا.. والدليل أنه لم يُطبّق كما وُضع، من الطبيعي أن تمرّ الجمهوريات بمراحل من التطور، وأن تُراجع دساتيرها بين الحين والآخر، خصوصًا عندما تضعف مؤسساتها، أو تتبدّل الظروف المحيطة بها..
لكن لبنان يبدو وكأنه متجمّد في حلقة مغلقة، يخشى فيها الساسة حتى من مجرّد التفكير بالتغيير.
فالدستور تحوّل في أذهانهم إلى وثيقة لا يجوز المساس بها، وكأنّ أي تعديل فيه يُعدّ خيانة وطنية، في وقتٍ يتآكل فيه الواقع يوماً بعد يوم..
منذ إقرار اتفاق الطائف عام 1989، يعيش اللبنانيون تحت مظلّة «الجمهورية الثانية» التي فقدت مبرّر وجودها،
صحيح أن الطائف أنهى الحرب الأهلية، لكنه لم يعالج جذورها، فالطبقة السياسية التي أشرفت على تطبيقه جعلت منه أداة لتقاسم السلطة، بدل أن يكون مدخلاً للإصلاح..
وباسم «الحفاظ على التوازنات»، استُخدم الاتفاق لتكريس المحاصصة، وشل حركة الدولة، حتى صار مجرد غطاء لأزمات متلاحقة تُخفي تحتها نار الانقسام.
في الواقع، اتفاق الطائف لم يكن مقدسًا يومًا، والبرهان الأوضح أنه لم يُنفّذ كما نصّ عليه، الدستور المعدَّل بموجبه دعا صراحةً إلى إلغاء الطائفية السياسية تدريجيًا، وإلى إنشاء مجلس شيوخ يمثل الطوائف، مقابل مجلس نواب غير طائفي يمثّل الشعب بأسره.
غير أنّ شيئًا من ذلك لم يُنجز، لا الطائفية تراجعت، ولا المؤسسات تطوّرت، ولا الإصلاح المالي والإداري تحقّق،
كل ما حصل هو انتقائية سياسية في تطبيق البنود، بحيث استُخدمت المواد التي تخدم مصالح السلطة، وجُمّدت سواها إلى أجل غير معلوم.
لعلّ التجربة الفرنسية تُقدّم مثالًا واضحًا على أن تطوّر الأنظمة الدستورية ليس عيبًا، بل علامة على نضج سياسي وحيويّة وطنية..
ففرنسا، التي تُعدّ من أقدم الديمقراطيات الحديثة، لم تتوقف عند جمهوريتها الأولى، بل راكمت التجارب حتى وصلت اليوم إلى الجمهورية الخامسة التي وُلدت عام 1958 مع الجنرال ديغول..
ومع ذلك، ترتفع اليوم أصوات داخل المجتمع الفرنسي تدعو إلى «الجمهورية السادسة»، أي إلى إصلاحات دستورية تُعيد التوازن بين السلطات، وتمنح المواطن دورًا أوسع في القرار السياسي..
هذه الديناميّة المستمرة تعني أن تطوّر الدساتير لا ينتقص من استقرار الدولة، بل يُعيد إنعاشها ويواكب تحوّلاتها،
اليوم، بعد أكثر من ثلاثين عامًا على الطائف، تفرض الحقيقة نفسها: الجمهورية الثانية وصلت إلى طريق مسدود.
الأزمات تتفاقم، الاقتصاد ينهار، مؤسسات الدولة تتداعى، والثقة بين المواطن والسلطة تتبخّر.
وهنا يبرز السؤال الكبير: هل يملك لبنان الجرأة على الانتقال إلى «الجمهورية الثالثة»؟
هذه الجمهورية ليست مغامرة في المجهول، بل خيار بقاء،
فهي دعوة إلى عقد اجتماعي جديد يُعيد تعريف الدولة وهويتها، يحدد أولوياتها وموقعها، ويضع حدًّا للازدواجية التي أنهكتها.
جمهورية مدنية حديثة، تقوم على المساواة بين المواطنين أمام القانون، وتمنح الحقوق على أساس الكفاءة والانتماء الوطني لا المذهب والطائفة.
لبنان لا يحتاج إلى حرب جديدة لتصحيح مساره، بل إلى شجاعة فكرية وسياسية تُطلق حوارًا وطنيًا صريحًا حول مستقبله..
فالتاريخ أثبت أن الجمود أخطر من التغيير، وأن الأمم التي تخشى الإصلاح، تموت واقفة..
لقد حان الوقت ليُدرك اللبنانيون أن اتفاق الطائف لم يكن نهاية المطاف، بل مرحلة تجاوزها الزمن، فإمّا أن يكتبوا معًا فصلاً جديدًا عنوانه «الجمهورية الثالثة»، وإمّا أن يبقوا أسرى ماضٍ يلتهم ما تبقّى من حاضرهم ومستقبلهم.




