آراءمغاربة العالم
أخر الأخبار

حين عبر النور المضيق: قراءة معمقة في انقطاع الكهرباء بإسبانيا ودروس المبادرة المغربية

حين جاء النور من الجنوب المغربي، تفككت بعض السرديات المغلوطة، وانكشف زيف الكثير من الصور النمطية التي حاولت تهميش المغرب وجعله على هامش المشهد المتوسطي

عزيز اللوزي

في ظهيرة يوم الإثنين الثامن والعشرين من أبريل سنة 2025، شهدت إسبانيا واحدة من أضخم أزماتها الطاقية الحديثة حين غاصت البلاد فجأة في ظلام دامس.

في الساعة الثانية عشرة وثلاثة وثلاثين دقيقة ظهرًا بتوقيت مدريد، انقطعت الكهرباء عن معظم أنحاء البلاد، بما في ذلك مدريد، برشلونة، فالنسيا، الأندلس، وغيرها من المدن الكبرى.

تعطلت القطارات ومترو الأنفاق، توقفت إشارات المرور، تعطلت خدمات الاتصالات، وغرق الشارع الإسباني في فوضى لم يعرفها منذ عقود.

الأسباب التقنية للانقطاع

تعود جذور هذا الانقطاع الكبير إلى مجموعة من الأسباب المعقدة والمتداخلة. فوفقا لما صدر عن شركة “ريد إليكتريكا دي إسبانيا” (REE) والتحقيقات الأولية، فقد كان السبب المباشر فقدان مفاجئ يقارب خمسة عشر جيغاواط من القدرة الإنتاجية للطاقة الكهربائية، ما يمثل نحو ستين بالمئة من الاستهلاك الوطني اللحظي.

هذه الخسارة الفادحة لم تكن نتيجة لعطب بسيط أو خطأ معزول، بل ناجمة عن سلسلة من العوامل المتراكبة:

  فصل جماعي لمحطات طاقة شمسية وريحية: نتيجة تقلبات سريعة في الشبكة وعدم استجابة كافية للاضطرابات.

نقص في قدرات الاستجابة السريعة: مع تزايد الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، لم تكن هناك محطات احتياطية كافية قادرة على ضخ الطاقة التقليدية بسرعة لتعويض الخلل.

انفصال الشبكة الإسبانية عن الشبكة الأوروبية: بسبب اضطرابات الجهد التي أجبرت أنظمة الحماية على فصل الشبكات لحماية التجهيزات.

ضعف منظومة التخزين الطاقي: مما حال دون امتصاص الصدمة الطاقية المفاجئة.

وعلى الرغم من أن هذه الاختلالات كانت قيد الرصد في دراسات سابقة، فإن هشاشة النظام انكشفت فجأة أمام اختبار عملي قاسٍ.

مبادرات الدعم الخارجي

مع تفاقم الأزمة، تحركت فرنسا عبر خطوط الربط البيني لدعم الشبكة الكهربائية الإسبانية من الشمال. كانت هذه الاستجابة متوقعة في إطار التنسيق الأوروبي المعتاد.

لكن اللافت للنظر أن المغرب، من الجنوب، بادر كذلك لدعم الشبكة الإسبانية. دون انتظار طلب رسمي، ودون شروط، تحركت السلطات المغربية عبر الربط الكهربائي مع الأندلس وضخت طاقة ساهمت في تسريع إعادة التيار إلى مناطق الجنوب الإسباني.

المبادرة المغربية جاءت هادئة وعملية، خالية من الاستعراض، لكنها محملة بدلالات ثقيلة: التضامن الواقعي، الجاهزية التقنية، وحس المسؤولية الإقليمية.

رمزية المبادرة المغربية

لم تكن هذه الخطوة مجرد دعم تقني، بل مثلت رسالة سياسية عميقة، خصوصا في ظل تصاعد خطابات الكراهية من بعض الأطراف اليمينية المتطرفة التي لطالما شيطنت كل ما هو مغربي.

حين جاء النور من الجنوب المغربي، تفككت بعض السرديات المغلوطة، وانكشف زيف الكثير من الصور النمطية التي حاولت تهميش المغرب وجعله على هامش المشهد المتوسطي.

غياب القيادة الإسبانية والانتقادات الداخلية

في ذروة الأزمة، غاب رئيس الحكومة بيدرو سانشيث عن المشهد العام لأكثر من ست ساعات، مما أثار انتقادات حادة من المعارضة.

اليمين الإسباني، وعلى رأسه الحزب الشعبي وحزب فوكس، لم يفوتوا الفرصة لتوجيه سهامهم إلى الحكومة، معتبرين أن هذا الغياب دليل على العجز في إدارة الأزمات.

كما أعادوا فتح ملف السياسات الطاقية، منتقدين الاعتماد المفرط على مصادر الطاقة المتجددة دون توفير بنية تخزين أو طاقة تقليدية احتياطية، مما جعل الشبكة الوطنية أكثر هشاشة أمام الطوارئ.

المغرب بين الجاهزية الخارجية وتعثرات الداخل

غير أن المفارقة الكبرى تتجلى في أن المغرب، الذي أظهر ديناميكية كبيرة في دعمه لجاره الإسباني، لم يتمكن دائما من توفير نفس المستوى من الجاهزية في أزماته الداخلية.

زلزال الحوز المدمّر سنة 2023، الذي أودى بحياة مئات الأشخاص وشرد الآلاف، كشف عن بطء في التنسيق الرسمي، وتأخر في إيصال المساعدات للمناطق المنكوبة.

هذه المقارنة لا تهدف إلى التقليل من قيمة المبادرة المغربية تجاه إسبانيا، بل لتذكير صادق بأن بناء المصداقية الإقليمية يبدأ أولًا من الداخل: حماية المواطن المغربي في لحظات الشدة يجب أن تكون أولوية لا تقل أهمية عن الدعم الخارجي.

النظرة النمطية في بعض القطاعات الإسبانية

رغم المبادرة المغربية السخية، كشفت الأزمة عن استمرار بعض الصور النمطية السلبية داخل قطاعات معينة من المجتمع الإسباني تجاه المغرب.

هذه الصور، المتوارثة عن ماض استعماري وعن تحيزات ثقافية، تختزل المغرب في قالب “الجار المتخلف”، وهو تصور تجاوزه الواقع منذ سنوات.

ومع ذلك، من المهم التنبيه إلى أن هذه النظرات لا تمثل الموقف الرسمي للدولة الإسبانية ولا غالبية الشعب الإسباني، الذي لطالما أظهر استعدادا للتعاون والانفتاح مع الجار الجنوبي.

النقد موجه إلى ثقافة اجتماعية كامنة تجد أحيانا صدى في بعض الخطابات الإعلامية والسياسية المتطرفة.

بناء مستقبل متوسطي مشترك

إن درس انقطاع الكهرباء يجب أن يكون فرصة لإعادة التفكير في العلاقات المغربية الإسبانية بعيدا عن الموروثات السلبية، وبناء أسس جديدة للعلاقة قوامها الواقعية والندية والاحترام المتبادل.

لقد أثبت المغرب في لحظة أزمة حقيقية أنه ليس مجرد “جار جنوبي”، بل شريك مسؤول وقادر على الإسهام في استقرار الفضاء المتوسطي.

وفي المقابل، فإن تطوير جاهزيته الداخلية لتعزيز استجابته للأزمات الوطنية سيعزز من مصداقيته أكثر ويجعله نموذجا إقليميا متكاملا.

إن البحر الأبيض المتوسط لم يعد مجرد حاجز يفصل الضفتين، بل هو جسر يجب أن يبنى عبر الثقة، التعاون، والرؤية المشتركة للمستقبل.

https://anbaaexpress.ma/55vq1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى