مع نهاية الفزع الأعظم والجبروت الصهيوني في مذبحة غزة والآلة الصليبية الأمريكية ابتدأ سفر الرجوع بعد سفر الخروج قبل 15 شهرا. صديقي أبو رتيمة خسر ابنه وقسما من عائلته في المذبحة كان شاهدا على رحلة العودة إلى الديار بعد أن لم يبق ديار.
سفر الخروج وسفر الرجوع. يذكر بأرض حمل الصليب الى جبل الجلجثة؟ والفرق في الهولوكوست اليهودي والفلسطيني الأولون ذبحوا خرافا مستسلمين لقدرهم أبناء غزة أخذوا قدرهم بيدهم فطوبى لهم وحسن مآب.
ولجمال ماورد على قلم صديقي المجاهد أبو رتيمة فسوف أترككم وما كتب؟
طريق العودة الطويل إلى غزة:
لم أتمالك نفسي صباح الاثنين 27 يناير 2025 أمام المشاهد المهيبة لتدفق مئات ألوف من النازحين العائدين إلى بيوتهم المدمرة في شمال وادي غزة سوى أن أتخذ قراراً سريعاً/ الانضمام إليهم.. ليس لي بيت هناك، فبيتي المدمر الذي كنت أسكن فيه يقع جنوب قطاع غزة، لكنه شعور التحدي والاندماج بالمشاعر الجماعية.
الذهاب إلى غزة قبل الحرب كان أمراً روتينيا لا يحمل أي تحد، آخر مرة خرجت فيها من مدينة غزة كانت مساء الخميس الخامس من أكتوبر 2023، كنت أذهب إلى غزة إلى العمل وأعود شبه يومياً، الطريق بين جنوب القطاع ومدينة غزة لا تستغرق في السيارة أكثر من نصف ساعة..
لكن فتح الطريق بعد الإغلاق والمنع كل هذا الزمان خلق معنى التحدي.. خرجت من خانيونس قاصداً التوجه إلى أقرب نقطة من شارع الرشيد الموصل إلى مدينة غزة، لكن المواصلات تحد آخر، مشيت أكثر من ساعة وأنا أتلفت إلى أي وسيلة مواصلات تمر بجانبي وأشير إليها دون جدوى، أعداد الناس المكتظين في الشوارع أكبر بكثير من سعة وسائل المواصلات على استيعابهم، اقتربت من مدينة دير البلح ماشيا على الأقدام دون أن أجد وسيلة نقل.
هنا ينبغي تدقيق كلمة “وسائل المواصلات” فهي ليست بالضبط تلك الوسائل الآمنة التي كنا نعرفها في زمان ما قبل الحرب، دمرت هذه الحرب، ضمن ما دمرته، آلاف المركبات، ولأن الحاجة أم الاختراع فقد اضطر الناس إلى إعادة تأهيل ما يمكن تأهيله من المركبات المدمرة، لذلك فإنك كثيرا ما تجد هياكل حديدية غريبة تمشي في الشوارع، هذه الهياكل لسيارات دمرت فقام أصحابها بإصلاح الموتور أو تبديله وصمموا إطارا حديديا مستعجلا ليقل الركاب، أو تجد مثلاً سيارة صغيرة وقد ألحقت بها عربة أو عربتين من المخصصة لقيادة الحمير، أو دراجة نارية قد ألحق صاحبها صندوقا خشبيا أو حديديا بها ليقل الركاب، أو شاحنة مخصصة لنقل البضائع تحمل مئات الركاب في داخلها وفوقها ومتعلقين بها.
في الأوضاع الطبيعية لم يكن الناس سيقبلون باستعمال هذه الوسائل غير المريحة والخطرة، لكن الرفض الآن يعد ترفا لأنه لا بديل عنها، بعد أكثر من ساعة من المشي وأنا أشير إلى كل ما يمر بجواري مرت سيارة ملحوقة بكارة، فصرخ علي فتى صغير يمتطي “كبود السيارة”: تعال اركب معنا، بسرعة! سألته وأنا أنظر إلى الركاب المتكدسين فيها: لا أجد موطأ لقدم واحدة في السيارة، فقال: تعال اركب جواري فوق كبود السيارة “مقدمتها”.. كان عرضا غريباً، فلم يسبق لي في حياتي كلها أن ركبت في هذا المكان، لكني اتخذت قراري بالموافقة بسرعة، لأني أعلم أنه لا يوجد بدائل، ولو رفضت هذا العرض فإني غالباً سأكمل الطريق كلها مشيا..
في العادة فإن هذا المكان من السيارة مخيف وغير آمن، فهو بدون حماية وسطحه أملس ولا يوجد أي من نوع من مقبض يمسك به الراكب لتثبيت مقعده حين تسير السيارة، وهو أصلا غير مصمم لجلوس الركاب، لكن ما منح أمانا نسبياً لجلوسي فيه هو بطء حركة السير بسبب اكتظاظ الشوارع بالناس من جهة وكذلك بسبب تجريف الطرق، لذلك فإن سرعة السيارة لا تزيد عن سرعة مشي الأفراد إلا قليلاً، شعرت بغبطة داخلية لأنني أعيش مغامرة لم أجربها من قبل “مغامرة الركوب فوق كبود السيارة”..
كان بطء خط السير كافياً لإجراء مساومات تفصيلية بين الركاب والباعة الواقفين على جانبي الطريق دون حاجة إلى توقف المركبات، مثلاً فقد جرى حوار بين الولد الذي يجلس بجواري وبين شاب يسير بجوارنا ويقود كلبين: ما رأيك أن تبيعني هذا الكلب الصغير بمائة دولار؟ رد الشاب: لا أريد أن أبيعه ولا بألف دولار!
ولأنني لا أزال منفعلا بشعور الغبطة، فقد راق لي أن أظهر بعض المزاح، فتدخلت في الحوار وسألت صاحب الكلبين: ما رأيك أن تبيعني إياه بعشر شواكل ( ثلاث دولارات) رد علي بأدب: احتفظ بها معك.. أنهينا الحوار ومركبتنا العجيبة تواصل سيرها.
وصلت السيارة إلى مفترق الزوايدة الذي يبعد عشرة كيلو متر عن مدينة غزة، اشتد الزحام بما جعل حركة المركبات شبه متوقفة.
قال السائق: الطريق مغلقة، سأنزلكم هنا . نزل الركاب، وتنازع السائق مع إحدى العائلات التي أقلها، فهمت من المنازعة أنه أخذ منهم أجرة كبيرة مقابل أن يوصلهم إلى المكان، ولما أنزلهم في هذه النقطة قبل بلوغ الهدف طلبوا منه تخفيض الأجرة، يتذرع السائق بأن الطريق مغلقة، وتتذرع العائلة بأنهم لم يصلوا إلى هدفهم.
وجدت نفسي منحازا إلى العائلة, قلت للسائق: ينبغي الوضوح مع الركاب منذ البداية، أنت تعلم مسبقاً أن الطريق ستكون مغلقة، فلماذا لم توضح لهم هذا؟ ثم مضيت.
كنت أخف القوم حملا ، أغلب الجموع راجعون إلى بيوتهم أو ركامها، محملين بأطفالهم وأغراضهم، بينما أنا متوجه وحدي دون حمل باستثناء زجاجة مياه صغيرة ومحفظة نقودي.
كان مشهد الناس قاسياً: العجائز والأطفال والمرضى والنساء والرجال يحملون متاعهم ويمشون ببطء، والجموع تبدو في الأفق البعيد بلا نهاية، وعلى جانبي الطريق يجلس الناس كلما أنهكهم التعب، لا يوجد طريق أو رصيف بالمعنى الحقيقي. يبحث الناس عن أي قطعة حجارة للاتكاء عليها أو يرتمون فوق الغبار والطين.
على جانب طريق الرشيد كانت مزارع العنب المشهورة في حي الشيخ عجلين، زراعة العنب معلم مميز لهذه المنطقة وكانت تصدر منه إلى خارج قطاع غزة، يسأل شاب يمشي بجواري: أين ذهبت مزارع العنب!
لقد جرفوها كلها.. لا يظهر الآن سوى الهشيم والحطام..
الأبراج السكنية والمباني قد سويت بالأرض، من هنا مر جيش اسرائيل ولم يبق وراءه سوى الدمار والحطام..
كلما تقدم المسير تبدى التعب والإرهاق في وجوه السائرين أكثر، وجدت عجوزاً كبيرة قد ارتمت فوق بطانية في منتصف الطريق لأنها غير قادرة ولا توجد عربة تحملها، ووجدت رجلاً يحمل أنبوبة غاز ثم تعب منها فألقاها أمامه وأخذ يدحرجها.
رأيت رجلاً مبتور القدم وهو يستند على عكاز خشبي ويربط فوقه حقيبته ويتقدم بين الجموع.
رأيت فتاة تمشي وحدها بعد أن نزحت برفقة زوجها وطفليها في بداية الحرب، قتلت عائلتها كلها في غارة إسرائيلية في الجنوب ورجعت وحدها إلى والديها، كانت طوال الطريق تبكي بحرقة وهي تدعو الله أن يحرق قلوب من حرق قلبها في طفليها وزوجها..
رأيت آلاف النساء يحملن حقائب ثقيلة وأطفالهن يتعلقون بثيابهن، يكسو الإرهاق والغبار وجوههن وتذرف أعينهن من مشقة الطريق وثقل الحمل، لكن لا خيار آخر.
رأيت الأمهات يجلسن على جانب الطريق ليرضعن أطفالهن، ورأيت مئات العائلات ترتمي على رمال شاطئ البحر على أمل استعادة النشاط بعد استراحة قصيرة.
رأيت أطفالا يبكون وقد أرهقهم المشي الطويل، سمعت أما تقول لطفلها:
هل تعبت ياماما من المشي، أعلم أنك متعب، سأحملك، تقول له ذلك وهي تحمل حقيبتين مثقلتين معها، وزوجها بجوارها يحمل أربع حقائب ثقيلة..
رأيت طفلة تقف وسط الجموع تتلفت حولها وهي تبكي وتمسك بحقيبة ثقيلة، سألتها فأجابتني إنها فقدت عائلتها بينما كانوا يسيرون معا..
حملت معها حقيبتها وقلت لها: سأظل أمشي معك حتى تجدينهم، قطعت معها أكثر من نصف كيلو متر، حتى أشارت إلى رجل أمامنا يحمل فراشا أسود فوق رأسه: هذا خالي، وبجواره أمي..
أتعبني حمل حقيبة الطفلة فأخذت أبدل حملها بين يدي اليمين واليسار، قلت في نفسي: لم أحمل الحقيبة سوى نصف كيلو متر، فكيف تستطيع هذه الطفلة الضعيفة حملها كل هذا الطريق الطويل!
تظهر الرحمة في أوقات الشدة، رأيت شابا يحمل والده فوق ظهره ويقطع به الطريق الطويل، ورأيت شابين يسندان عجوزاً ربما تكون أمهما أو جدتهما ويتقدمان معها ببطء شديد خطوة خطوة، وقد ظهر الإرهاق جلياً في وجه العجوز، فيقول أحدهما للآخر: دعها تستريح قليلا..
مع تقدم الطريق ارتفعت استغاثات الناس طلبا للماء، رأيت الأطفال والفتيات والرجال يتلفتون ويسألون عن الماء..
نفدت الطاقة التي بدأ الناس يومهم بها كما ينفد وقود السيارة، بدأت الخطوات تتباطأ وتتثاقل وبدأ الناس يلقون أنفسهم أرضا وهم يرون الطريق تبدو بلا نهاية، بدت الوجوه شاحبة باهتة بعد أن أضناها المسير، ورأيت الفتيات يبكين من انقطاع الحيلة.
أكثر هذه الجموع لم تعش مثل هذه التجربة طوال حياتها قط، أنا متأكد أن هؤلاء النساء أنفسهن لم يكن يعلمن أن في داخلهن هذه القدرة على تحمل الظروف القاسية، رأيت امرأة تحمل أنبوبتين للغاز (وزن 6 kg) في يديها اليمين والشمال..
الطريق قاحلة ومدمرة ومليئة بالحفر، حفر عميقة أحدثتها جرافات الاحتلال، وحفر أخرى كانت للبنية التحتية قبل أن يدمرها الاحتلال، كان تجنيب الأطفال السقوط في هذه الحفر تحدياً آخر يضاف إلى تحديات الطريق الطويل.
طريق الرشيد كان أيقونة مميزة لجمال مدينة غزة، حتى إن وسائل الإعلام كانت تستعمل صورته أيقونة معرفة لمدينة غزة، اجتاح الجيش الإسرائيلي هذا الشارع وجرفه ودمر معالمه ومطاعمه وفنادقه بالكامل، تناقلت مواقع صهيونية صورتين لهذا الشارع قبل وبعد الاجتياح مع شماتة واضحة! كيف يمكن توقع سلوك دولة تخوض حرباً وهي محملة بأمراض الحقد والانتقام والشماتة..
خلال المسير رأيت تجمعات حول نقطة ما؛ لقد عثروا على جثمان متحلل أو بقايا جمجمة وعظام، هذا الطريق كان محرم الوصول حتى على الطواقم الطبية طوال شهور الحرب، لذلك تتوقع المصادر الطبية أن هناك مئات الجثث المتحللة بين الركام وتحت الرمال في هذا المكان..
كان أمر العودة سيبدو أسهل لو سمح الجيش للسكان بالرجوع في المركبات أو حتى على الكارات المقودة بالحيوان، كان ذلك سيوفر الكثير من العناء على كل هؤلاء المرضى والعجائز والنساء والأطفال لكن هذا التشديد الإسرائيلي ينتمي إلى “سياسة التنكيد وقتل الفرح” الراسخة ضد الفلسطينيين..
إسرائيل تحذر من منح الفلسطينيين أي إنجاز مريح، تريد أن تنغص عليهم أيام فرحهم حتى لا يخطر ببالهم أن إرادتهم انتصرت على المحتل..
في نهاية الطريق كانت هناك سيارة ثبتت فوقها مكبرات الصوت وتغني بصوت عال بأناشيد وطنية حماسية، وقد ارتفعت رايات خضراء وسوداء ابتهاجاً بالنصر والصمود.
رأيت أخيراً بعض الشاحنات التي توزع على الناس مياها للشرب، وبعض متطوعي المؤسسات المجتمعية يوزعون بعض وجبات الطعام القليلة ويهنئون العائدين بسلامة الوصول.
مشيت في هذا اليوم كما لم أمش في حياتي من قبل، حوالي خمسة عشر كيلو متر متواصلة، دخلت مدينة غزة التي صار الوصول إليها حلما بعيداً في زمان الحرب. اليوم تحقق الحلم.
نظرت يميناً وشمالاً أحاول التعرف على ما تبقى من الشوارع والبنايات، لم أعرف الشوارع في البداية بسبب التدمير والتجريف، تعمقت في المدينة أكثر وبدأت المعالم تنتظم من جديد في عقلي، الدمار في كل مكان لكن وتيرته أقل من تدمير مدينة رفح بطبيعة الحال التي رجعت إليها قبل أسبوع.
كلما رأيت عمارة أعرفها وقد نجت من آلة التدمير أشرق شعاع من الفرحة في قلبي، هذه المعالم التي أفلتت من التدمير هي ما تبقى من أمل بأن الحياة لم تنته في غزة..
تقول الإحصاءات إن مستوى التدمير صادم ويستغرق عشرات الأعوام لإعادة البناء.. هذه الحقيقة تلقي بشبحها القاتم المخيف على قلوبنا، وهذا ما يفسر إشراقة الفرح مع رؤية كل مبنى أو معلم قد نجا من التدمير..
لم يعد ممكنا أن أرجع إلى الجنوب في نفس اليوم بعد الإرهاق الذي أصابني، وليس لي محل أبيت فيه في مدينة غزة، كان لأختي بيت في المدينة لكنه دمر ونزحوا إلى بيتهم في مدينة رفح الذي دمر أيضاً، استعرضت في ذاكرتي أسماء الأصدقاء في مدينة غزة الذين يمكن أن يستضيفني أحدهم هذه الليلة.
كل من تذكرته إما قتل في هذه الحرب أو نزح إلى الجنوب، نجح اتصالي أخيراً في أحد الأصدقاء والتقيته في مستشفى يعمل فيها، فركت عيني حين دخلت المستشفى، وجدت مشهداً ذكرني بحياة ما قبل الحرب: هدوء، وإضاءة ونافذة تذاكر،.. قلت له: لو تعلم ماذا أحدث هذا المشهد البسيط في قلبي ؟ كم صرنا مشتاقين إلى طقوس الحياة العادية التي كدنا ننساها تحت ضغط المعيشة في زمان الإبادة.
أخذني صديقي إلى شقة قد نجت من القصف لأقضي ليلتي فيها، تصنيف أي مبنى في غزة بأنه ناج من القصف يتسامح مع تدمير بعض الجدران وتحطم النوافذ والأثاث في داخله، وهذا هو حال الشقة التي نمت فيها، فقد تهدم أحد جدرانها وتحطمت كل نوافذها وأثاثها، ولا يوجد في داخلها كهرباء أو مياه بطبيعة الحال إذ إن هذه الشبكات مدمرة بالكامل، لكن رغم ذلك فهي خيار مرفه وفق شروط غزة الراهنة: يكفي أن هناك سقفاً وفراشا وغطاء..
نمت ليلتي الأولى في غزة، شعرت براحة عميقة أن مئات الألوف تمكنوا أخيرا من العودة إلى هذه المدينة التي كانت إسرائيل تصر طوال شهور الحرب على تفريغها من سكانها، سيواجهون مشكلات نقص الطعام وانهيار الخدمات وتدمير البيوت لكن لا ضير من انتزاع قليل من الفرح بتذكر أن أحد الخطوط الإسرائيلية الحمراء قد كسر اليوم..
اتحد شعوري بالراحة مع شعور الإرهاق فدخلت سريعاً في نوم عميق، في منتصف الليل استيقظت على أصوات الزنانة المزعجة، سواء في الحرب أو وقف إطلاق النار فإن هذه الزنانات لا تفارق سماء غزة، وهي مذكر دائم بأن الحياة تحت الاحتلال مزعجة بالضرورة، شعرت بالتوتر من صوتها، قبل أن أستأنف النوم من جديد..
في الصباح نفذت أشعة الشمس إلى الغرفة واحتضنتني، شعرت بانتعاش ودفء وكأن إشراق شمس هذا الصباح قد حفز إشراق شعاع من الأمل في نفسي المتعبة الحزينة..