آراءثقافة

الصورة النمطية للنوبي الأسود.. “زولو” في رواية نجيب محفوظ “كفاح طِيبة”

لقد اختيرت هذه الرواية في نهاية عام 1999 بعد دراسة قامت بها صحيفة (الموندو الاسبانية) كواحدة بين أهم روايات الأدب العالمي في القرن العشرين على الإطلاق

أكتشف كل مرّة من خلال قراءاتي في أدب نجيب محفوظ قوة السرد، جمال الأسلوب، جزالة التعبير وسلاسة الحبك، وأنا وبكل واقعية اعتبر محفوظ عملاق الرواية العربية على الإطلاق ليس لأنه حاز على جائزة نوبل للآداب، كما وأنني أعتبره روضتي ومدرستي التي تعلمت منها الكثير ولا زلت وحدث ولا حرج.

كنت كلما ذهبت إلى مصر أحرص أن أزور دار الشروق للنشر التي أخرجت روايات هذا الكاتب العملاق في ثوب بديع يفتح النفس للقراءة مقارنة بالكتب القديمة. أن أخرى الكتب التي ملكت عليّ مخيلتي وهمت في خيلاها الدفاق كانت رواية (كفاح طِيبة). هي دون ادني شك رواية في غاية الروعة والاثارة فمن تقع على يديه لا يتركها إلى بعد أن يطبق على آخر صفحة بها.

لقد نشرت للمرة الأولى سنة 1944 وهي الثالثة بين رواياته التاريخية بعد (عبث الأقدار)، التي نشرت عام 1939 ورواية (ورادوبيس) التي رأت النور في عام 1943. (كفاح طيبة) رواية بتفاصيل تاريخية محكمة وترقد فوق أعمدة عمل متقن وبحث طويل ومضني. لقد اختيرت هذه الرواية في نهاية عام 1999 بعد دراسة قامت بها صحيفة (الموندو الاسبانية) كواحدة بين أهم روايات الأدب العالمي في القرن العشرين على الإطلاق.

عمد الكاتب فيها أن يرمز لكفاح مصر عندما صمدت صمود الابطال لاسترداد حريتها من الغزاة الهكسوس، وأنها أيضا في القرن العشرين قادرة بكفاحها المسلح أن تحقق استقلالها من قبضة الاحتلال البريطاني كما فعلت ضد الهكسوس الجبابرة في الماضي. في بساط زمرديّ رائع نثر فيه نجيب محفوظ قصة تحكي كفاح أهل طيبة. حكى فيها قصة حب التاجر إسفينيس الذي صار فيما بعد فرعون مصر أحمس.

كان الأخير ملكا حكيما سددت حكمته بالانتصار على الأعداء، لكن رغم هذا الانتصار الذي بلغه بحكمته وحبه لشعبه في كل المعارك التي خاضها ضد ملك الهكسوس، لم تغب عن ذهنه صورة تلك الأميرة، نجلة ملك الذي هزمه، والتي ظل هواها وعشقها ينقص عليه لياليه. مع ظهور الأميرة بدأ الكاتب في إدخال شخصية (زولو) الهامشية في الرواية. هاكم ما جاء بها:

سألت الأميرة قائلة:
– أين هذا المخلوق العجيب الذي كان هنا؟
– سيكون بين يديك
وذهب إلى كوة تطل على باطن السفينة، ونادي قائلا:
– زولو

وما لبث أن ظهر القزم من الكوة، وتبعه جسمه، ثم أقبل على صاحبه، فأخذه من يده إلى حيث تقف الأميرة وجواريها وكان يسير ملقيا بصدره إلى الأمام في خيلاء مضحكة، وبرأسه الكبير إلى الوراء، ولا يزيد طوله على أربعة أشبار، أما لونه فشديد السواد، وأما ساقاه فمقوستان. قال له إسفينيس:

– حي مولاتك يا زولو!
فانحني القزم حتى مس شعره المفلفل الأرض، فاطمأنت الأميرة وسالت وعيناها لا تفارقان القزم:
– أحيوان هذا أم إنسان؟
– هو إنسان يا صاحبة السمو.
– ولماذا لا نعدّه حيوانا؟
– له لغته ودينه.
– عجبا وهل يوجد مثله كثيرون؟
– نعم يا مولاتي، إنه ينتمي إلى شعب وافر العدد فيهم نساء ورجال وأطفال ولهم ملك وسهام مسمومة يسددونها نحو الحيوان المفترس والإنسان المغير، ولكن قوم زولو يأنسون إلى الناس سريعا ويخلصون المودة لمن يصادقهم، ويتبعونه كالكلب الأمين.

فهزت رأسها المكلل بخصلات الذهب عجبا، وافتر ثغرها عن در نضيد، وتساءلت:

– وأين يعيشون قوم زولو؟
– في أقاصي غابات النوبة، حيث يرقد النيل المعبود.
– دعه يحدثني إن استطعت!
– إنه لا يستطيع أن يتكلم لغتنا، وقصارى جهده أن يفهم بعض الأوامر، ولكنه سيحيي مولاته بلغته.
– وقال إسفينيس للقزم:
– ادع لمولاتك دعاء طيب!

فاهتزت رأس القزم الكبير كأنه يرعش، ثم نطق بكلمات غريبة بصوت أدني إلى الخوار، فلم تملك الأميرة إلا أن تضحك ضحكة عذبة، ثم قالت:

– حقا إنه غريب، ولكنه قبيح لا يسرني أن اقتنيه.
إن هذا الحوار بكل ما يتضمن من تعابير واستعارات للرجل النوبي الأسود لا يحتاج إلى تفصيل إذ أنه يتحدث عن نفسه. لا انشد ها هنا أن أقيد وأحدّ خيال القارئ الكريم.

فإنني أتركه لتمعن العبارات التي يحتويها بعض حوارات هذه الرواية التاريخية والتي تعدّ من أهم روايات الأدب العالمي. يحبذا أن نجعل من المقال وما يتضمنه من قراءات منطقية وعلمية انطلاقا لبحث متبادل بينا نفيد منه ونستفيد، دون أن أنسي أن لي رجعة أخرى لصورة الرجل النوبي الأسود أو صورة السوداني في روايات نجيب محفوظ والتي صارت استريوتيب وصورة نمطية للقباحة والغباء.

أرسل لي صديقي الناقد والكاتب مصطفى يوسف رسالة عن المقال كان مضمونها كالآتي: يشرح النص بمتعالية أدبية غاية في العلمية والاستمساك بالقدرة المتشكلة من التجريب الذاتي واستلهام المكون التاريخي لحركية الإبداع، فنية أدب نجيب محفوظ، ليرسو على تفكيك منهجي لرواية (كفاح طيبة)، في بعدها الدلالي الرمزي، ويفسرها من متعانقها التاريخي، ليحملنا عن قصدية اختيارية إلى دلالات الحوار في الرواية، الحامل لمحتوى شبكي، حتى يقتنص بعداً سيميائياً من ثنائية الاسم(زولو)،المخلوق العجيب/ الصورة (القزم)، وما الحقه بها من سواد وغيره، وهي ثنائية لا تخلو من الاسقاطات الواضحة قصد التشويه، والتي ارادها الفعل الروائي، وإن احتمى بهيكلية الهامشية .

تعمدت سيمياء الصورة المرسومة بالحوار/الوصف، أن تظهر النوبي/السوداني، بحشد كل التشوهات الممكنة ووسمه بصفات الغرابة، لدرجة تصنيفه كحيوان، منطلقة من مفارقات غريبة، وقراءة كلها أخطاء، لاعتمادها على نمطية مرتكزة في الذاكرة الجمعية، المتقوقعة على ذاتها، بافتراضات تتعمد النَّيْل من الآخر، ووسمه بالدونية، فتنتج دائما جملة من الاختلالات والتشوهات، التي تحفل بها حركية أدب محفوظ، كهذه التي حملها الحوار.

https://anbaaexpress.ma/zklqz

محمد بدوي مصطفى

كاتب وباحث سوداني مقيم في ألمانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى