آراءثقافة

في الجغرافيا المتعالية

نحن لا نقف ونسوس العالم فوق جغرافيا قارة بل نحن فوق حركة منتظمة لكنها مفتوحة على كل الاحتمالات من خوارم الفلك

ليست الحكمة المتعالية مذهبا فلسفيا، بل هي أفق نقدي مفتوح على كل الاحتمالات، انطلاقا من مبانيها المفتاحية التي كسرت أقفال الفلسفة. فهي بالأحرى فنّ التقاط الوجود في مسار تكامله، وأيضا هي تدبير الوفاء لأصالة الوجود وأشرفيته.

ولئن تحدثنا عن البعد الجيوستراتيجي للدازاين، فذلك ثمرة لأصالة الوجود، التي هي أصل لكل العوارض التي يتشكّل منها عالم الإنسان والطبيعة.

ولكن، لا بدّ من معرفة أنّ ما كان يتراءى للناس ثابتا، بما فيه الجغرافيا، فهو متحرك بنحو الحركة الجوهرية، وهذا ما جعل ملا صدرا يستدل على الحركة الجوهرية بالجبال التي تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب، في بيان حركة الجوهر الجسماني.

وكنت قد وقفت في “ما بعد الرشدية” على هذه النكتة وعلى رفض هادي العلوي لهذا الاستدلال، لعل ذلك ناتج عن محاولته تكييف الحركة الجوهرية واختزالها في جدل الطبيعة، وأنّ الاستناد إلى المُثُل قد أضعف فكرة الحركة الجوهرية المادية.

أوضحت حينها أن الاستدلال بناء على الآية التي أوردها ملاصدرا، هو استدلال فيزيقي وليس ميتافيزيقيا، بل فيه بالملازمة استدلال على حركة الأرض، لأنّ الجبال موصوفة بأنها أوتاد، ولئن تحركت فهي حركة سببها دوران الأرض، كما الريح سبب في حركة السحاب.

اليوم أمكننا الحديث عن الحركة الجوهرية التي تمسّ الأرض والجغرافيا السياسية، لكن بعيدا عن التصور التقليدي للجغرافيا والجواهر. نحن لا نقف ونسوس العالم فوق جغرافيا قارة، بل نحن فوق حركة منتظمة لكنها مفتوحة على كل الاحتمالات من خوارم الفلك.

وجود الدازاين، قَلِقا و كاشفا عن الوجود الحقّ، هو من يحدد مصير المكان نفسه، حيث هذا الأخير ومن منظور ليبنتز، ناشيء عن تواجد الحيز، كامتداد تفرضه ماهية الجسم، بالمعنى الديكارتي للامتداد الجسمي.

وأيضا لا ننسى الامتدادا الميتافيزقي، لكائن لا تتمحض ماهيته كشاغل للمكان ومتحيز فيه جسديا، بل شاغلا له ومتحيزا فيه بمشروع أنطولوجي يرهن وينظم العلاقة بين الأحياز على المكان، هذا الأخير الذي يعتبر  لدى ليبنتز بنظام التواجد والتعايش(L’ordre de Coexistence). يمنح ليبنتز صفة تواسطية للمكان، وجود رابط بين الأحياز، لا جوهر ولا عرض.

الحركة الجوهرية هنا ليس بالمعنى الفيزيقي، أي ما يقع على الجوهر الجسماني، بل المكان إن استحضرنا رؤية ليبنتز، هو رابط بين العوارض. المكان في ذاته لا تتميز اجزاؤه كما هو الجوهر، بل هو قابل للقسمة اللانهائية.

هل يا ترى سيخضع الفكر الجغرافي في بواكير التنوير مع كانط لجدل النومينا والفينومينا؟ هل الجغرافيا حقيقة في ذاتها أم هي نتاج عقلي؟ يبدو أنّ كانط لم يخرج عن الوعي الجغرافي لعصره، كما كان منهمّا بدفع اللاّهوت الجغرافي، لكنه آمن بوجود تنوع اجتماعي وأنثربولوجي في المكان.

بناء عليه، يمكننا إعادة تحديد معنى الجغرافيا، باعتبارها علم يُعنى بامتداد الدازاين وتحيّزه. وسيكون هذا التعريف أوضح بالنسبة للجيوسياسة، باعتبارها امتدادا ميتافيزقيا، تحيّز الدازاين في المكان.

لعل البرهان الأكبر على الحركة الجوهرية هو حركة الأعراض نفسها، فهي مدينة لحركة الجوهر، والجوهر هنا هو الجوهر النفسي الحاكم على الأحياز.

ينطلق الشكّ الديكارتي من موقف يعزز الوجود نفسه، على الرغم مما يبدو من تراتبية  الفكر قبل الوجود. فالوجود هو من أنقذ الدازاين من الشّك اللاّمنهجي، لأنّنا لا نفكّر إلاّ بشرط الوجود. منطلق الوجود، جغرافيا الدازاين، أنا أفكر يعني أنا متحيّز في المكان.

يسعى الاستعمار في خرق قواعد المسافة في الأحياز -المسافة أساسية عند ليبنتز- لتشكيك الآخر في تحيزه وتموجده، أي محاولة إلغائه أنطولوجيا متى ما حاول إلغاءه جغرافيا.

من هنا، أعتقد أنّ الاستعمار  لا يشكل معضلة جغرافية، بل هو يشكل معضلة أنطولوجية.

خلال تاريخ الاحتلال، كنّا أمام محاولة استبدالية، مخرج سياسي- عسكرتاري، تجاهل قادته تعقيد الجغرافيا كامتداد أونطولوجي، وباعتبارها نسقا من التموجد. لعبة التموضع الفارغ في جغرافيا منطوية على الدازاين المحلّي. لم يعد الصراع محصورا في الحيز، بل مسّ النسق الأنطولوجي الممتد حضاريا، والذي يتجاوز فكرة السّاكنة.

تشكيك المحلّي في شرعية تموجده في المكان، هو اغتصاب أنطولوجي يتجاوز فكرة الأرض. هنا تصبح المعركة مفتوحة، معركة فوق-جغرافية، تمسّ الدّازاين المحلّي، الذي أكسبته التجربة معرفة بوجوده الحقّ.

تشكيك الدازاين المحلي بمشروعية تحيُّزه في المكان، حلّ لا تاريخي ولا جغرافي، لأنّ الجغرافيا ليست مجرد مكان، بل هي حيّز، والأحياز هي مشروع أنطولوجي وامتداد ميتافيزقي للدازاين.

المشكلة بهذا المعنى تتجاوز كلّ أشكال الصفقات، بل ذلك هو الدرس الذي ينبغي أن تدركه الأمم المتحدة، راعية الجغرافيا السياسية العالمية بوصفها براري مفتوحة على صراع دارويني، وليست مكانا يصل بين أحياز ذات بعد مزدوج: فيزيقي-ميتافيزقي، وحده المؤسس لجغرافيا حوار الحضارات. إنّ الجوهر النفسي حين يتحرك، تتحرك معه الجغرافيا السياسية.

الجغرافيا إذن حتى فيما آل إليه الفكر الجغرافي الحديث، هي نسق رمزي ودلالي. والجغرافيا السياسية هي مخاض الأحياز وصراع الدازاين على حافة نسيان الوجود هيدغيريا أو إخطاء أصالته صدرائيا.

إنّ اختزال الجغرافيا السياسية في الصدع العارض بين أحياز المكان، يبعدنا عن أصول ومباني علم لم نحققه حتى اليوم: الجغرافيا المتعالية.

لازال النموذج الذي يُؤطِّر سياسة الأمم المتحدة في تدبير النزاع الجيوستراتيجي، بعيدا عن المقاربة الأنطولوجية.

وهذا يعقّد المهمّة بل يتجاهل جوهر المعضلة البشرية، ويختزل النزاع بوصفه اختلالا في قواعد الاشتباك. غير أنّ قواعد اشتباك الدازاين مع معضلة الوجود، تنعكس على طبيعة التجيز في المكان، فالقلق الوجودي يكشف عن عوارضه في المجال. جغرافيا مرتهنة لهذا النسيان الوجودي، هي إذن، جغرافيا قلقة.

https://anbaaexpress.ma/7l2q5

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى