آراءسياسة

عبثية الحرب..

حرب أوكرانيا الحالية التي بدأها بوتين في 24 فبراير عام 2022 مر عليها عام ودخلنا العام الثاني وقد تطول عشر سنين وهي لاتخرج عن منظمة الحرب الإجرامية فالحرب هي في ثلاث كلمات: جريمة وجنون وإفلاس أخلاقي.

ولن يطول قدوم ذلك اليوم، حين يقف الناس في المتحف مشدوهين، يتأملون فوهات المدافع، أو أصناف الأسلحة التي لاتنتهي، والتي صُممت بعناية من أجل الفتك بالإنسان ؟! سوف يتعجبون من نوعية ذلك الإنسان البدائي (القاتل)، وينظرون إليه كما ننظر نحن اليوم إلى الديناصورات التي اختفت من وجه اليابسة، وإذا كانت الديناصورات قد غيبَّها الثرى قبل (65) مليون سنة، وإذا كانت الحياة قد بدأت قبل (3,5) مليار سنة، وإذا كان أمام الحياة أن تتابع سيرها في الأرض (5.5) مليار سنة أخرى، فقد نتحسر أننا ولدنا مبكرين للغاية، لإن التاريخ (الفعلي) للإنسان لما يبدأ بعد !!

عندما كنت في ألمانيا الغربية (سابقاً) أعمل في مركز لجراحة الأوعية الدموية في منطقة (وستفاليا)، وكان ترخيص مزاولة المهنة يصدر من مدينة (منستر – MUENSTER)، لم يكن يخطر في بالي مطلقاً، أن هذه المدينة تحمل (ختماً) لعهد مريع ودعته ألمانيا في القرن السابع عشر حين تم توقيع معاهدة (صلح وستفاليا – WESTFALLEN) عام 1648 م التي ختمت حرباً ضروساً استغرقت ثلاثين عاماً ؟!

اندلعت هذه الحرب المروعة ببدايات بسيطة وتنافسات تافهة بين أمراء الإقطاعيات، ولم يكن يخطر في بال أحد أنها ستكون كما قال الشاعر العربي امرؤ القيس قديماً :
أولُ ماتكون الحرب فُتيَّةٌ تسعى بزينتها لكل جهولحتى إذا حميت وشُب ضِرامها غدت عجوزاً غيرُ ذات حليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكروهةً للشم والتقبيل.

اشتركت في هذه الحرب جيوش شتى من ألمانية وسويدية وفرنسية وهولندية وإسبانية ودانماركية وتطاحنت مذاهب متفرقة من كاثوليك وبرتستانت وكالفانيين، ودُمرت الأرض الألمانية شرُ تدمير، وقضى نحبهم حوالي ستة ملايين من أصل (21) مليوناً، أي مات حوالي ثلث السكان، وبالطبع من الشباب، ففي الحرب تنقلب الآية فيدفن الآباء أبناءهم، لاكما هي سنة الحياة بدفن الصغار آباءهم الكبار المسنين !! ولم تقم لألمانيا قائمة إلا بعد قرن من هذه الحرب الأهلية المدمرة.

جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت: ((تناقص عدد سكان ألمانيا بسرعة أثناء الحرب، وتقول التقديرات المعتدلة بأن عدد سكان ألمانيا والنمسا، هبط من (21) إلى (15) مليوناً وبين (35) ألف قرية في (بوهيميا) هناك نحو (29) ألف قرية هجرها أهلوها أثناء الصراع وهناك في مختلف أنحاء الإمبراطورية مئات من القرى لم يبق فيها ساكن واحد، وقد يقطع المرء في بعض الأقاليم ستين ميلاً دون أن يرى قريةً أو بيتاً وتُركت آلاف الأفدنة الخصيبة دون فلح أو زرع بسبب نقص الرجال أو الدواب أو البذور  أو لإن الفلاحين لم يكونوا على ثقة من أنهم سوف يحصدون نتاج مايزرعون.

واستخدمت المحصولات لإطعام الجيوش وكان ماتبقى يحرق لئلا يستفيد منه الأعداء واضُطر الفلاحون في كثير من الأماكن إلى أكل الفضلات المخبأة أو الكلاب والقطط والفئران أو جوز البلوط والحشائش، وقد وجد بعض الموتى وفي أفواههم بعض الحشائش، وتنافس الرجال والنساء مع الغربان والكلاب على لحم الخيول الميتة وفي الألزاس انتزع المعتدون المشنوقين من المشنقة تلهفاً على التهام جثثهم، وفي أرض الراين كانت القبور تنبش وتباع الجثث لتؤكل، واعترفت إمرأة في مدينة (الساربروكن _ SAARBRUEKEN) بأنها أكلت طفلها.

وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة: ماجديبورج (MAGDEBURG) وهايدلبرج (HEIDELBERG) ونورمبرغ (NUERNBERG) وبايروث (BAYREUTH) وتدهورت الصناعة، وكسدت التجارة، وصار التجار الذين كانوا يوماً أثرياء، يتسولون أو يسرقون ويسلبون من أجل لقمة العيش، وبات الهواء ساماً بسبب الفضلات والنفايات والجثث المتعفنة في الشوارع، وانتشرت الأوبئة مثل التيفوس والدوسنطاريا والتيفود والاسقربوط بين السكان المذعورين، ومرت القوات الإسبانية بمدينة ميونيخ فتركت وراءها طاعوناً أودى بحياة عشرة آلاف ضحية في أربعة أشهر، وذوت وذبلت في أتون الحرب الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفاً ومجداً وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف)).

كانت نهاية هذه المعاناة في عام (1648) م ، واما في عام (1864) م فقد بدأت كارثة لاتكاد تصدق ، ولم تسلط عليها الأضواء تماماً حتى الآن، وهي حرب (الباراغواي) ضد تحالف (الارجنتين والبرازيل والأورغواي)، مات في هذا النزاع الدموي والذي استمر ست سنوات حوالي (80%) من سكان الباراغواي، كان عدد السكان مليون وثلاثمائة ألف نسمة، لم يبق منهم سوى ( 200 ) ألف فقط ؟؟!!.

هذان مشهدان من صفحات التاريخ المظلمة والمؤلمة، والسؤال: إذا كانت الحرب بكل هذه الفظاعة والقسوة، بكل هذه الآلام والخسائر، وهذا التدمير فلماذا يمارسها البشر ؟؟ هل الحرب إفراز بيولوجي وتعبير طبيعي ؟ أم تشكيل ثقافي ومرض اجتماعي ؟.

وقف العالم الفرنسي ( غاستون بوتول ) أمام هذه الظاهرة متأملاً وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية ، وهو يتعجب من عدم وجود معاهد علمية تدرس مثل هذه الظاهرة المخيفة، التي تفترس الجنس البشري وتهدد وجوده (( لم تأخر الباحثون هذا التأخر الكثير عن تأسيس علم اجتماعي حقيقي للحروب ( POLEMOLOGIE ) ؟ ولم َ لم ْ تبعث أهم ظاهرة اجتماعية أي باحث على دراسة خصائصها وجوانبها الوظيفية دراسة موضوعية ؟؟ )).

من الغريب أن الأمراض العضوية البدنية أُسس لها من المخابر والمصحات والمستشفيات مالايحدها عدد في حين أن هذه الظاهرة الاجتماعية المرعبة ليس لها معهد يدرس بنيتها، ويتقصى أسبابها، ويعرف وظيفتها ويصل بالتالي إلى إيجاد مصلٍ واقٍ لهذا المرض المعضل والمعند ؟! (( إننا نرى منذ نصف قرن شيوع المخابر المخصصة لدراسة السرطان أو السل أو الطاعون أو الحمى الصفراء وهي تزداد كل يوم ، فلمَ لم ْ تبعث ْ على إيجاد أي معهد للأبحاث، تلك الحرب التي تذهب وحدها بضحايا أكثر من كل هذه المصائب مجتمعة ؟؟ )).

يبدو أن اللامبالاة تجاه هذه الظاهرة ، سببها روح (الاعتياد) وليس (الدهشة) التي تبعث على الفضول والاكتشاف فليس منا إلا وشارك أو سمع أو عانى من الحرب بقليل أو كثير. في عام (1971) م استطاع (غاستون بوتول) تأسيس (المعهد الفرنسي لعلم الحرب)، حيث تم دراسة ظاهرة الحرب في أكثر من قرنين من الزمان القريب منا، بين عامي (1740 – 1974) للميلاد  ووضع لها مواصفات حتى تعتبر حرباً ، فمناوشات الحدود ومقتل العشرات لاتعتبر حرباً !!

وهكذا تم وضع ست شروط حتى تندرج تحت مفهوم الحرب، من مثل (أكثر من ألف قتيل و اشتراك أكثر من دولة واستمرار أكثر من عام !!)، فوجد أنه قد وقع في الفترة المذكورة (366) نزاعاً مسلحاً بحيث لم تمر إلا أعوام نادرة لم يحصل فيها نزاع مسلح !! وقد كلفت هذه النزاعات المريعة (85) مليون قتيل، منها فقط (38) مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية وحدها !!

فأي جنون هذا وأي عبث هذا ؟؟.. في الحرب يموت الشباب والذكور بوجه خاص، فالحرب عموماً ذكورية !! وبذا تندثر الطاقة الانتاجية، ويتدمر النسيج الاجتماعي، وتذوي الأمة وتهبط طاقتها، بل وقد تؤول إلى الفناء بشكل أو آخر، فدولة مثل الباراغواي لم تستفق من دمار حرب سبعينات القرن التاسع عشر حتى الآن، وألمانيا احتاجت إلى قرن كي تسترد عافيتها، واضطرت الكنيسة في كلا البلدين (المسيحيين والتي تحرم فيها الكنيسة تعدد الزوجات) إلى إصدار مشروع في إباحة تعدد الزوجات، لتعويض الذكور الذين هلكوا في الحرب، وخسرت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية (5.6) مليون قتيل وكان الخاسر الأكبر في ضحايا الحرب الأخيرة (الإتحاد السوفييتي) حيث سقط (22) مليون قتيل على أقل التقديرات، أما في يوغسلافيا فقد سقط واحد من كل عشرة من السكان إلى القبر. فأي دمار وبؤس هذا ؟؟؟

في عالم الحشرات والحيوان لم يعثر على ظاهرة الحرب، أي حشد كمية كبيرة من عناصر جنس معين ضد عناصر أخرى من نفس النوع، يفتك كل فريق بالآخر بأوامر (من فوق) وبأدوات تدمير رهيبة، ثم ترك الجثث بدون إفتراسها !! باستثناء بعض طوائف النمل وبشكل محدود، ومن أجل سرقة الغذاء والمونة.

كما لم يعهد بشكل عام في عالم الحشرات والحيوان أن العنصر يقتل الآخر لمجرد القتل، قد تفترس سمكة أخرى للتغذية، وتطارد اللبوة الفريسة لتأمين وجبةٍ لعائلة الأسد أما القتل (للقتل) فلم يعرفه سوى هذا الكائن المرعب المسمى بالإنسان !

https://anbaaexpress.ma/j8l36

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى