
كل مجتمع هو تركيب عضوي مثله مثل كل الكائنات العضوية، وبالتالي فهو يخضع لقانون العضوية البدنية، من رفض كل جسم غريب، صالحا كان أم طالحاً، ولا يخرج المجتمع عن هذا القانون من أجل الحفاظ على البقاء، التي هي ـ أي غريزة البقاء ـ أهم عناصر الوجود.
وقانون الجسم هذا ساري المفعول دوما، في رفض كل جسم غريب من خلية وفيروس وجرثوم، ويشذ في حالة واحدة غير مفهومة، حيث ينقلب القانون معكوسا، في استقبال جسم الأنثى للحيوان المنوي، بترحيب شديد واستقبال حميم، وبكاء عليه في صورة الدورة الشهرية، التي تعبر عن فشل اللقاء وخيبة الموعد دما بدل الدمع، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ويراهن الجنرالات في الحرب على هذه الغريزة، غريزة البقاء فيقتتل الجنود ويسلخون جلود بعضهم بعضا، تحت الأمر والإمارة، لأناس لم يروهم، بأوامر من جنرالات لا يروهم، وقيادات مختبئة خلف الأسلحة ومعدات القتل والمناظير، ولو رأى الجنود الجنود خارج ميدان القتال لتبادلوا فناجين القهوة، ولكنهم في الحرب المبرمجة يتهادون رسل الموت أرتالا. فهذا طرف من عقل الإنسان وجنونه، وجنون المجتمع ولا عقلانيته أيضاً.
وتقول لنا العضوية أن المريض المصاب بالفشل الكلوي يحتاج لزرع كلية، ولكن زرع الكلية يجب أن يتم من خلال عمليتين معقدتين ترعبان الأطباء، أي الدمج بين الزرع وتضعيف البدن، إلى الحد الذي يتحمل فيه كلية غريبة تنظف الجسم من الأدران، ولكن بقوة مقاومة خفيفة ضد الأمراض.
تحت مبدأ كل شيء أو لاشيء، فحين يتقبل الجسم الكلية الغريبة كان عليه من باب أولى قبول ما هو أقل من عضو كامل يضم ملايين الخلايا بإدخال خلية بسيطة. ولكن مشكلة الخلية الواحدة أنها مصنع إنتاج وهناك من الخلايا والفيروسات ما تجدد وجودها كل عشرين دقيقة؟ وكذلك الثوار والأفكار الثورية في المجتمع، فيحاول الجسم الاجتماعي المحافظة بصرامة وقوة على نسق تكرار وجوده وإعادة نسخ نفسه مثل الكائن الحي تماما.
فكما يتابع الجسم وجوده بإعادة تكرار نسخ خلاياه لتحل محل التالفة، كذلك يفعل المجتمع، فيدافع عن وجوده بلهيب نار وسيف يتقلب.
وهذا الجدل المحير في الطب هو أحد تحديات العلاج، إلى حين كشف طرق أكثر تقدمية في العلاج، كما تعد بذلك التقنيات الجديدة المزدوجة من دمج الهندسة النسيجية، مع تقنية زرع الخلايا الجذعية الأصلية، حيث يتم زراعة خلايا من نفس جسم المريض، تم استنباتها، فلا تحدث تلك الممانعة الشديدة في تلقي العضو الجديد من قلب وكلية وكبد. كذلك كان حال الأفكار النبيلة، مثل زرع الأعضاء النبيلة.
والجدل هنا يقوم على فشل عضو مثل كبد وقلب وكلية، والمجتمع يخضع لنفس الشروط والمقاسات، حين يفشل عن التكيف التاريخي فوجب زرع الأعضاء الجديدة فيه.
وعملية الإصلاح الديني في المجتمع، هي من أخطر التداخلات الجراحية الثقافية، ويجب أن تطبق فيها شروط العمليات الجراحية من تعقيم شديد وتخدير كاف، وإلا قتل المريض من حيث أردنا شفاؤه. وفي تقديري أن جماعة الحداثة تفعل هذا فتجري عملياتها بالمنشار على ورم في الأنف بدون تخدير. وفي كل مرة اجتمع فيها بمؤتمر يضم الحداثيين أو المتدينين، أصاب بالدهشة بين قوم لهم عقول بلا دين، أو متدينون لهم دين بدون عقل.
والخلاصة التي نصل إليها أن الجسم يمانع من دخول أي خلية غريبة، وكذلك المجتمع يحارب أي فكرة جديدة من أجل الاستمرار كما هو، بدون التعرض لخضات غير محسوبة، وهذا القانون من جهة جيد، يختبر الأفكار الجيدة بامتحان قاسي، وهو من جهة خانق لأنه لا يسمح للأفكار الجديدة بالمرور، وهذا هو المنحى الذي كان رسول الرحمة ينعي على قومه فيقول أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، وفي أول سورة العنكبوت شرح لقانون المحنة كي يتبين الصادقون من المنافقين ونبلوكم بالخير والشر فتنة والينا ترجعون.
وبالطبع فإن الفكر الديني حين يتحدث بفخر عن هذه الآية لا يخامره الشك لحظة أن عنده أيضا من أولئك الآباء الذين يجب أن يتخلى عنهم، ونحن في مقالنا هذا لا نستطيع أن نشير لأولئك الآباء، ولو أشرنا ما نشر كلامنا، ولو نشر لجاء منه صداع كبير؟ لذا وجب علينا تحري الحكمة والحذر فنقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا.