تقاريرسياسة

المنظمة الدولية للفرنكفونية.. بين الأهداف المعلنة والخّفية

بمجرد تأمل بسيط في واقع المستعمرات الفرنسية السابقة، سيبدو واضحا كم أصبحت اللغة الفرنسية مسيطرة على الحياة العامة، وقد أطلق العالم الجغرافي الفرنسي أونسيم ريكلوس Onésime Reclus في ظل التأملات الجغرافية في مناطق نفوذ فرنسا في العالم بهذه البلدان بالعالم الفرنكوفوني.

ويعد هذا المصطلح “الفرنكوفونية” أحد أهم الأسلحة الناعمة التي استخدمتها فرنسا باقتدار وبتخطيط، وتحكمت به طيلة عقود في حاضر ومستقبل ووعي كثير من الشعوب، وخصوصا في أفريقيا التي انسلخت من لغاتها الشعبية المحلية، لصالح الفرنسية التي أزاحت العربية عن منصة الصدارة الثقافية.

ويرى البعض أن الحركة الفرنكوفونية ترتبط بقدم تسلط فرنسا على مستعمراتها، في حين يراها البعض الآخر انها حركة فكرية وثقافية برزت بعد الاستقلال تحاول صهر كل الدول التي كانت تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية في إطار واحد، غير أن خروج فرنسا من مستعمراتها في إفريقيا خلف نوعا اخر من الاستعمار الناعم متمثلا في الفرنكوفونية التي مكنت فرنسا من السيطرة على الوعي الثقافي في بلدان عديدة.

والمغرب على غرار باقي مستعمرات فرنسا السابقة، بالرغم من الإستقلال السياسي عن فرنسا، إلا أنه لم تستطيع وضع قطيعة نهائية مع سياسة المستعمر الثقافية واللغوية الإقصائية لكل ما هو وطني وعربي وإسلامي، فكان الطابع العام الذي طبع الوضع الجديد هو الإستقلال السياسي في إطار استمرار التبعية الثقافية واللغوية والإقتصادية ضمن ما يسمى بالفرنكوفونية.

خطر الفرنكوفونية على الثقافة المحلية

تمثل الفرنكوفونية أسلوب فرنسي ناعم تسيطر من خلاله بكل قوة على الثقافة والتعليم والرياضة ليس في فرنسا فقط، وإنما في بلدان متعددة وخصوصا في أفريقيا، وتتخذ المنظمة من باريس مقرا رسميا لها، وتمتد فروعها الإدارية ومقراتها في عدد من دول العالم ، حيث يتنفس الناس هنالك من رئة فرنسا الثقافية التي لا تقل حضورا وتأثيرا عن الوجود الفرنسي في ميادن السياسة والاقتصاد ، وتحول المدارس والكتب والإعلام والشوارع ولغة التخاطب والتعبير والفكاهة والنضال السياسي إلى مفردات فرنسية، كما لو كنت تسير فيها على جنبات شارع الشانزليزيه، غير أن التنمية والرفاهية الاقتصادية والديمقراطية السياسية لم تعبر إلى مستعمرات فرنسا عبر جسور الكلمات والرؤى الثقافية التي تدّعي الدعوة إليها.

لا يخفى على أحد الدور الحاسم والكبير للتربية والتعليم في ترسيخ القيم والخصوصيات الثقافية والحضارية والدينية والأخلاقية، لذلك عملت فرنسا من خلال مؤتمرات “قمم الفرنكوفونية ” على التحكم في بنية التربية والتعليم وتغييرهما، (الهدف هو تطوير وتشجيع الفرنسية، إضافة إلى دعم السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، وترقية التعليم والتكوين والتعليم العالي، والبحث العلمي، وخدمة التنمية المستدامة، والسعي إلى مد ونشر الخدمات الأساسية في مناطق متعددة من الفضاء الفرنكوفوني).

غير أن الهدف الحقيقي من ذلك فصل الإنسان الافريقي عن مقوماته الحضارية، حيث رسمت سياسة لغوية تقوم على تشجيع التمدرس باللغة الفرنسية في مقابل إقصاء اللغة الأم من التدريس بدعوى أنها ليست لغة العلوم والفنون، لذلك تحرص فرنسا حرصا شديدا على فرض اللغة الفرنسية في مؤسسات الدولة والحياة العامة بعدما وجدت في النخب الفرنكفونية المتحكمة في القرار خير معين لها على تطبيق سياستها.

لذلك فإن هناك من يرى أن الإستقلال الوطني لكثير من المستعمرات الفرنسية هو استقلال سياسي، أما الإستقلال الإقتصادي والثقافي واللغوي فلا تزال جبهاته مفتوحة ومعاركها طويلة، وقد تمتد لعقود طويلة فلا أحد يخفى عليه الدور الذي تلعبه اللغة في حياة الأمم والشعوب.

الفرنكوفونية ذات أبعاد عميقة

يؤمن عدد كبير من الباحثين أن الفرنكوفونية بمفهومها الأوسع، ليست مؤسسة ثقافية بل هي امتداد للاستعمار الفرنسي، وأنها حققت لفرنسا ما لم تحققه جيوشها طيلة عقود من الزمن، وبسبب ذلك تستميت فرنسا في الدفاع عن لغتها رغم ما أصابها من شيخوخة وتآكل لمضامينها الثقافية والعلمية، بسبب سيطرة اللغة الإنجليزية على الإبداع والإنتاج العلمي.

في حين يرى أنصار الفرنكوفونية أن اللغة الفرنسية والثقافة الفرنكوفونية عموما قدمت إسهامات جليلة للعالم خاصة في مجالات الأدب والفكر والسياسة والفنون، ويرون أنه من الحيف وعدم الإنصاف التركيز على الجانب السياسي المتعلق بربطها بسياسة فرنسا ومواقفها، باعتبار أنها أصبحت تمثل اختيارا ثقافيا لشعوب كثيرة في مختلف قارات العالم.

وما يعيب هذا الرأي كون الفرنسية، أداة ناعمة لتوسيع نفوذ إحدى الدول العظمى بعد نهاية عصر الاستعمار المباشر، بل ينظرون إليها بحسبانها لغة نخبة، ووسيلة للتواصل فإتقان اللغة الفرنسية تحول في العقود التالية لإقامة الدول الوطنية وجلاء المستعمر إلى إمتياز يمكن أصحابها من دخول سوق العمل بسهولة ويسر في الدول المغاربية والأفريقية الناطقة بالفرنسية.

مما لاشك فيه أن الفرنسية بالنسبة لفرنسا تمثل بعدا أكثر من اللغة وأهم من الثقافة وأعمق من الاقتصاد، وإنما أضحت رهانا إستراتيجيا يكتسي أهمية حيوية لدى فرنسا، فاللغة بصفة عامة تعد جزءا من إشكالات الهوية في مختلف بلدان العالم ، وبناء على ذلك فإن النقاش الدائر في عدد من المستعمرات الفرنسية السابقة بشأن الفرنكوفونية في مساراتها المختلفة هو جزء من التدافع أو “الصراع الحضاري” وفقا لتعبير “صامويل هنتغتون” الذي يرى أن الصراعات القادمة في العالم ماهي إلا حروب حضارية.

وبالعودة للقيم التي تتبناها فرنسا من خلال منظمة الدولية للفرنكوفونية، أضحت تطرح أكثر من تساؤل ففرنسا ذاتها لا تجسد “القيم الفرنكوفونية” التي تدافع عنها، بمعنى أنه إذا كانت المؤسسات الفرنكوفونية تسعى وفق ما تعلن إلى نشر ثقافة التواصل والمحبة والتنوع والسلام، فإن فرنسا على المستوى الرسمي فشلت في أحيان كثيرة وخصوصا في السنوات الأخيرة في احترام خيار التنوع الثقافي واحترام الاختلاف الحضاري ويبقى الاسلاموفوبيا في فرنسا مثالا على ذلك.

مما يجعل من المستعمرات الفرنسية السابقة تنتفض ضد العباءة الفرنسية التي تحتمي بها الديكتاتوريات التي حكمت تلك البلدان منذ جلاء المستعمر، ويحمل العديد من سكان تلك المستعمرات باريس مسؤولية عقود من تراكم الفشل الاقتصادي والأزمات الاجتماعية، وانهيار مؤسسات التعليم والبحث العلمي.

وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون بالتشدّد خلال لقائه الأخير مجموعة من الشباب على هامش القمّة، على ضرورة “استرداد” اللغة الفرنسيّة مكانتها في بعض الدول الفرنكوفونيّة بعد أن سجّلت “تراجعا حقيقيا”.

وباتت الفرنكوفونية تواجه بشكل متزايد في منطقتها الاستعمارية، تراجعا متواصلا لصالح اللغة الانجليزية التي تنتشر بشكل كبير ومتزايد في إفريقيا، ضمن ظاهرة الانجلوسكسونية التي ليست مجرد انتقال لغوي بقدر ماهي حراك ثقافي وعلمي واجتماعي متسارع، ويمثل النهوض الرواندي على صهوات الكلمات الإنجليزية أبرز مثال على تراجع الفرنكوفونية في القارة الأفريقية.

كانت الفرنكوفونية هي الأسلوب الأمثل، والسبيل لتحقيق الحلم الذي ساور فرنسا طيلة مدة، بتحقيق التوسع الفرنسي في إفريقيا لكن السياسة الفرنسية التي نهجتها حكومة الاستعمار في البلدان الإفريقية لم تحقق لا التوسع، ولا الوحدة ولا الازدهار لإفريقيا الفرنسية، إنما الذي تحقق هو الزوابع الثقافية، والهزات الفكرية، والنعرات الإقليمية الدامية، والانقلابات السياسية، ناهيك عن الاضطرابات الاجتماعية المتتالية.

https://anbaaexpress.ma/8k524

محسن المساوي

باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى