آراءثقافة

كيف ولماذا كتبت أول كتاب لي؟

كتابي الأول: الطب محراب للإيمان

بقلم: د خالص جلبي

بعد تخرجي من كلية الطب إستولت علي فكرة كانت تتخمر على مدى سنوات طويلة، وهي محاولة رؤية الطب في منظار جديد، بل رؤية كافة العلوم في هذا الضوء، والذي حرك هذا الموضوع عندي هو نصف آية من القرآن جاء ذكرها عرضاً بشكل خجول متردد في كتاب الفيزيولوجيا (تأليف شفيق البابا) ذلك العلم الجميل الذي كنا نتعرف عليه في ذلك الوقت.

الآية أو بالأحرى نصف الآية هي: (وجعلنا من الماء كل شيء حي). ماأثار انتباهي في ذلك الوقت أن الآية لم تذكر حتى نهايتها، مع أن الآية ذكرت من أجل الوصول إلى تقرير جدوى ومغزى الآية ونهايتها هي كلمتان فقط (أفلا يؤمنون).

لقد أثارت هذه الكلمات عندي زوبعة فكرية في محاولة اكتشاف العلاقة بين العلم والإيمان، في البيولوجيا، في الفيزياء النووية، في الكوسمولوجيا، في علم مباحث الأعصاب الحديثة، في التطور، في الجنس، في التسلح النووي، في السلم والحرب والأمن الدولي، في التعليم، في قضية المرأة، في الكفاح الأخلاقي، في علم النفس الحديث، في دورة الاقتصاد، في مشكلة العنف واللاعنف، في الانثروبولوجيا، في علم الجينات وجراحة الكروموسومات الذي يشكل علم المستقبل، والذي هو أخطر من السلاح النووي، جعلني كل هذا أنكب على دراسة هذه الظاهرة، في محاولة لبناء فلسفي جديد، يدخل فيها العقل المسلم المعاصرة، ويتكيف معها بعد أن يهضمها ويتمكن منها، لينتقل بعد ذلك إلى الإبداع فيها؛ لذلك كتبت كتابي الأول في حياتي (الطب محراب للإيمان – جزء أول) وبعدها بأربع سنوات الجزء الثاني من نفس الكتاب (تم تأليفه في ظروف السجن البعثي العبثي) الذي طورت فيه البحث خطوة جديدة في رسم معالم فلسفة إسلامية معاصرة للتعامل مع العلوم الجديدة، التي تخترق فضاءات جديدة للمعرفة كل يوم؛ لذا فإن مزية الكتاب هو أنه اقتحم مجالاً جديداً كان رائداً في وقته، ولايزال يتمتع بصلابة حتى وقت كتابة هذه الأسطر.

والآن وبعد مرور عقود على تأليفه أشعر أن هذا الاتجاه الذي شقيت الطرق إليه لايقتصر على الطب بل يجب أن يشمل كل حقول المعرفة الإنسانية، ومن أعجب ظروف تأليف الكتاب أنه نزل دفعة واحدة وكأنه الوحي في شهر، كنت أكتب فيه كل يوم عشرة صفحات حتى اكتمل 300 صفحة. كتبته وأخذ مني شهراً كاملاً قبل التقدم إلى فحص الامتحان الأخير لنيل شهادة دكتور في الطب البشري.

وحين رآني زميلي (باش إمام) قال هل جننت وأمامك الفحص المصيري بعد شهرين؟ قلت له لكل فكرة وكتاب لحظة حاسمة وهذا وقته وقد جاء وحيه على عجل، وإن لم أكتبه فلن يكتب قط! وفعلا كان الكتاب بركة فطبع وطبع عشرات المرات، وسرق العديد من المرات كليا أو جزئيا. ومازال الكتاب بعد فترة العقود من أجمل الكتب التي كتبت في الجمع بين الطب والمحراب، بل ويباع في أمازون ولا أعرف من يحصد المال من بيعه فلصوص الكتب أكثر من رمال الربع الخالي؟

بعد أن أنجزت كتابي الأول في عمر 24 عاما قمت بمشروع حفر جديد للتعامل مع أحدث المعلومات التي تتدفق إلى السوق الفكرية وهي أنه ليس ( الطب فقط محراب للإيمان ) بل علم الذرة والفيزياء النووية. البيولوجيا وعلم الخلية الحديث (تأمل كارثة الكورونا التي صدرتها الصين للعالم COVID19). الكروموسومات واكتشاف الشيفرة السرية للخلق الإنساني حيث تعاظمت الثورة العلمية مع القرن الحادي والعشرين. أيضا علم النفس الإنساني في مدرسته الجديدة التي طورت مايعرف بعلم النفس الإنساني بعيداً عن فهم الإنسان كدفعة غريزة أو آلة بل ككائن فريد متميز.

كانت محاولة كتابي هي استيعاب الإعصار العلمي وصدمة الحداثة، تلك التي دخلت العالم الإسلامي وأحدثت فيه مايشبه فقد التوازن في البنية الثقافية.

أردت أن أقرأ الطب في ضوء القرآن، واستخراج عجينة جديدة بين العلم والإيمان. (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة – 11). فهمت أن العلم والإيمان هما وجهان لعملة واحدة، بل أردت أن أقلب العلم إلى إيمان، والإيمان إلى علم، وفي اللحظة التي يتم فيها هذا التحول سيحصل في تاريخ العالم ماحصل في اكتشاف اينشتاين للعلاقة بين الطاقة والمادة، حيث تتحول الطاقة إلى مادة وبالعكس.

إن الطاقة ليست إلا إحدى صور المادة، كما أن المادة ليست إلا طاقة مكثفة، وهذا الفهم لطبيعة الكون، بل إن نقص هذا الفهم عند الشيطان سابقاً هو الذي أودى به إلى اللعنة الأبدية، حين احتج بتميزه أنه من طاقة وأن آدم (مادة). وفي الحين الذي نصل فيه إلى معادلة من هذا النوع سيتوقف الصراع بين العلم والدين.

من هنا نفهم مامعنى أن القرآن يقرن في كثير من آياته بين العلم والإيمان، أو يشير إلى أن الذين يحملون العلم يعرفون أن ماجاء في القرآن حق فتخشع قلوبهم له. (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) تماماً كما يبذل العلماء الآن جهودهم في فهم القانون (التوحيدي) الذي ينتظم الكون، والذي قضى فيه اينشتاين العشرين سنة الأخيرة من حياته، لدمج طاقات الكون الخمسة الرئيسية في طاقة واحدة وهي الجاذبية، قوة الكهرباء والمغناطيس (تلك التي تمكن ماكسويل من توحيدها في معادلة واحدة). قوى النواة الضعيفة وقوى النواة القوية.

https://anbaaexpress.ma/aoywv

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى