آراءثقافة

الفلسفة العدمية وعقاب سيسيفوس

من الجامعة داوود إلى طرفة بن العبد مرورا بالخيام وإنتهاء ببرتراند راسل

يقول برتراند راسل (Bertrand Russell) في كتابة المشهور: (لماذا أنا لست مسيحياً):
(لأن يكون الإنسان نتاج أسباب لا تملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات ولا يكون منشؤه ونموه الا مجرد حصيلة أرتصاف ذرات عرضي، ولأن تعجز أي حدة في التفكير أو الشعور في الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولأن يكون الاندثار هو المصير المحتم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الإنسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار. على ذلك لا يمكن بناء موطن الروح في أمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم).

هذه هي خلاصة (الفلسفة العدمية) على لسان أبرز فلاسفة العصر الحديث (برتراند راسل) الفيلسوف البريطاني صاحب المؤلفات الغزيرة منشؤ الإنسان ونموه لاتزيد عن مجرد صدفة من تراص عرضي للذرات، والاندثار والفناء يلف المصير الإنساني، ولا حياة أخرى، والأسباب التي أنتجت الإنسان لا تملك عدة تحقيق غاياتها؛ فلا خالق…
وإذا كان الكون هكذا فقد تكلل الوجود الإنساني بالخسوف الكامل من البداية حتى النهاية، وبالتالي فالكون يبدأ بداية عرجاء عاجزة، ولايزيد الخلق فيه عن صدفة، والنهاية فيه عبثية؛ لذا فلا غرابة أن ينتهي الفيلسوف إلى (الأساس الراسخ من القنوط المقيم).

هذا مع العلم أن برتراند راسل كان فيلسوفاً عظيماً مجلياً مبدعاً، وبرتراند راسل في الواقع ينقل ويصور بأمانة إلى أين انتهت النظرة العلمية القديمة والتي سادت القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وما زالت تترك آثارها وبصماتها على التفكير الإنساني حتى الوقت الراهن ونحن في القرن 21 ميلادية الـ 15 هجرية..

“تقول الأسطورة اليونانية القديمة أن ملك كورنثيا (سيسيفوس) عوقب من الإله (زيوس) كبير الآلهة بأن يرفع صخرة عظيمة من أصل الجبل ليوصلها إلى أعلاها، وفي الحين الذي تصل فيه إلى القمة تتدحرج إلى الأسفل ليعيد العمل من جديد”.

هذا النوع من العمل الباطل العبثي الذي لا ينتهي ولا يجدي ولا يوصل إلى غاية ولا يفضي إلى نتيجة هو أعظم عقوبة يمكن أن يعاقب عليها إنسان، وذهب مثلاً في التاريخ عن العدم والعبث ومن هذا المثل العبثي أتخذ (ألبير كامو) الفيلسوف الوجودي الفرنسي عنواناً لكتاب هام له هو: (أسطورة سيسيفرس) (THE MYTH OF SISYPHUS) ذكر فيه:
(أن ما يتصف به العالم من تبلد وغرابة هو العبث بعينه …. لو كنت شجرة بين الأشجار أو قطاً بين الحيوانات لكان لهذه الحياة معنى أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة لأنني أكون منتمياً إلى هذا العالم ـ هذا العالم الذي أقاومه الآن بكل إدراكي ـ إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضاداً مع كل الموجودات).

(باطل الأباطيل الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس. الشمس تشرق والشمس تغرب … كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن ….العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع…. ما كان فهو يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع؛ فليس تحت الشمس جديد…. أنا الجامعة كنت ملكاً على إسرائيل في أورشليم ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش عن كل ما عمل تحت السموات هو عناء رديء جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيه.

رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس؛ فإذا الكل باطل وقبض الريح. الأعوج لا يمكن أن يقوم. النقص لا يمكن أن يجبر ….وجهت قلبي لمعرفة الحكمة، ولمعرفة الحماقة والجهل؛ فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم والذي يزيد علماً يزيد حزنا).

بهذه الكلمات في (سفر الجامعة داوود) من العهد القديم نقلت لنا أيضاً رؤى كئيبة عن العبثية والملل في هذا الوجود، في الحين الذي ينقلنا القرآن إلى وسط مشرق رائع عن داوود الذي ينسجم مع الكون في صلاة مشتركة (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب) (ص الآيات 18ـ 20) في الحين الذي يرى القرآن الحياة هي الجدة، والجدة تعني كل يوم شيئاً جديداً (كل يوم هو في شأن) وبذا تمتزج جدلية الحياة بين الثابت والمتغير، بين الجامد والمتحرك، بين القديم والجديد.
كذلك نقلت لنا أبيات رباعيات الخيام طرفاً من العبثية والملل وعدم الفهم والحيرة ـ والتعاسة بنفس الوقت ـ لفهم هذا الوجود:
أحسن في نفسي دبيب الفنــاء ولم أصب في العيش إلا الشقاء
يا حسرتا إن حان حيني ولــــــــم يتــــــــــــــح لفكري حل لغز القضاء
تروح أيامي ولا تغتــــــــــــــــــدي كما تهـــــــــــــب الريح في الفدفد
وما طويت النفــــس هما على يوميـــــــن: أمس المنقضي والغد
غد بظهر الغيب واليــــــــوم لي وكم يخيب الظــــــــن في المقبل
ولست بالغافـــــــــــــــل حتى أرى جمــــــــــــــــــــــال دنياي ولا اجتلي
سمعت في حلمي صوتاً أصاب ما فتـــــــــــق النوم كمام الشباب
أفق فإن النــــــوم صنــــــو الردى واشـــــرب فمثواك فراش التراب
سأنتحي الموت حثيث الـــــورود ويمحي اسمي من سجل الوجود
هات اسقنيها يا منــــــي خاطري فغــــــــــــــــاية الأيام طول الهجود
وهذا فالكل ينهل من نفس المعين الحمئة ، ويعب من نفس الخواء.

https://anbaaexpress.ma/czm3h

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى