في مشهد يُلخّص حجم العزلة التي تعيشها الجزائر دبلوماسيًا بعد الانتصارات التي حققتها الدبلوماسية المغربية في قضية الصحراء، بشكل مفاجئ قرّرت الجزائر إلغاء مشروع ميناء “الحمدانية” الاستراتيجي، الذي كان جزءًا من “طريق الحرير” الصيني، ومنح امتياز تطوير موانئها البحرية لصالح شركة CMA CGM الفرنسية.
قرار الجزائر لم يكن اقتصاديًا بقدر ما كان سياسيًا بامتياز، ويمثّل ردّ فعل مباشرًا على إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهاية يوليوز الماضي، دعم باريس الواضح لمغربية الصحراء، عبر تأييد مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
الجزائر التي لطالما رفعت شعار “السيادة الاقتصادية” و”الشراكة الاستراتيجية مع الصين”، وجدت نفسها اليوم تُسلّم مشروعها البحري الأكبر لشركة فرنسية يملكها رجل أعمال مقرب من قصر الإليزيه، في محاولة واضحة لاسترضاء باريس وامتصاص مفاعيل هذا الموقف الفرنسي الذي شكل ضربة قوية لمحور الانفصال.
عزلة تتعمق بعد فشل الرهان على اللوبيات
التحولات المتسارعة في المواقف الأوروبية لصالح مغربية الصحراء، وعلى رأسها الموقف الفرنسي، والبريطاني الأخير وضعت الجزائر في حالة ارتباك واضح.
وبعدما فشلت رهاناتها على بعض اللوبيات السياسية والاقتصادية الأوروبية، بات صانع القرار الجزائري يبحث عن قنوات جديدة لشراء بعض النفوذ لدى فرنسا، ولو على حساب شراكة عمرها عقد من الزمن مع الصين.
التضحية بالصين: تنازل بلا مقابل
ميناء الحمدانية، الذي ظل يروَّج له كمشروع سيادي جزائري صيني، تم دفنه فجأة بذريعة “التضخم في الكلفة”، بينما يعلم الجميع أن هذا التضخم ليس وليد اليوم.
الحقيقة، كما كشفتها صحيفة لوبينيون الفرنسية، أن السبب المباشر هو اتفاق سياسي جديد بين الجزائر ومجموعة CMA CGM الفرنسية، عقب استقبال الرئيس تبون لرئيس المجموعة رودولف سعادة في قصر المرادية.
ما جرى هو ببساطة مقايضة سياسية: الجزائر تُلغي مشروع الحزام والطريق الصيني، وتمنح فرنسا امتياز تطوير موانئها، مقابل محاولة تهدئة التوتر مع باريس على خلفية الموقف الفرنسي المؤيد للوحدة الترابية للمغرب.
لكن رغم كل شيء هذه المناورة لن تُغيّر من المعادلة الأساسية: المغرب حقق اختراقات دبلوماسية غير مسبوقة في ملف الصحراء المغربية، وتحول مقترح الحكم الذاتي إلى المرجعية الواقعية الوحيدة المقبولة دوليًا.
في المقابل، تجد الجزائر نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى، وتُقدّم تنازلات استراتيجية مؤلمة لشركاء لطالما وصفتهم بـ”الإمبرياليين”، بعدما كانت تراهن على الصين وروسيا لموازنة نفوذ الغرب في المنطقة.

المغرب يُعزز موقعه كقوة إقليمية
في الوقت الذي يُعزز فيه المغرب موقعه كمركز لوجستي وتجاري عالمي عبر ميناء طنجة المتوسط والمشاريع الجديدة في الناظور، تضطر الجزائر للتنازل عن مشاريعها الكبرى خوفًا من فقدان ما تبقى لها من أوراق ضغط.
في مشهد يعكس فقدان البوصلة، أصبحت الجزائر، بسياساتها المرتبكة، تُعمّق عزلتها أكثر، بينما المغرب يراكم الإنجازات ويقود دينامية جديدة في إفريقيا وحوض المتوسط.
كيف يخدم هذا القرار المغرب؟
بعيدًا عن التداعيات الداخلية في الجزائر، فإن هذا القرار يصبّ في مصلحة المغرب بشكل مباشر:
أولًا، يُظهر حجم الارتباك السياسي للنظام الجزائري أمام انتصارات الرباط.
ثانيًا، يُضعف موقع الجزائر في التفاوض مع الصين، ويجعل بكين تُدرك أن شراكتها مع الجزائر أصبحت هشّة وغير موثوقة.
ثالثًا، والأهم: هذا التراجع الجزائري أمام فرنسا يُمهّد الطريق أمام الصين نفسها لإعادة تقييم موقفها من قضية الصحراء المغربية.
إذ لم يعد خافيًا أن الصين، في ظل دينامية الاعتراف الدولي المتنامي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، باتت تدرس بعناية مصالحها الاستراتيجية في شمال أفريقيا.
ومع إنكشاف هشاشة الخيار الجزائري، قد تجد بكين نفسها في موقع أقرب إلى الانخراط في الاعتراف العملي، وربما الرسمي مستقبلاً بمغربية الصحراء، إنسجامًا مع التطورات الدولية.
وفي النهاية يمكننا القول، بأن هذا القرار الجزائري الذي قُدّم كخطوة “اقتصادية”، ليس سوى هدية مجانية للرباط: حيث يُعزز موقع المغرب كقوة إقليمية، ويُضعف جبهة الجزائر سياسيًا واقتصاديا.
بالإضافة يفتح الباب أمام تحولات في موقف الصين نفسها، التي قد تجد قريبًا أن مصالحها باتت مع المغرب، الدولة الأكثر استقرارًا ومصداقية وجاذبية للاستثمار في المنطقة.
بهذا المغرب كسب جولة جديدة.. من دون أن يُطلق رصاصة واحدة.