لا تكشف الفيديوهات المسرّبة عن رحلة الرئيس السوري السابق بشّار الأسد إلى الغوطة في 20 نيسان 2018 عن مفاجأة تذهل السوريين، موالين له أو معارضين.
ولا أحد كان صدّق رواية تلفزيون النظام السابق بشأن تأثر الأسد بمشاهد “الزلزال” الذي ارتكبه جند الرئيس وبراميله المتفجرة وقبل ذلك سلاحه الكيماوي في 21 آب 2013. وبدا، في ردود الفعل عما هو جديد مسرّب، ما يكشف عن استعادة كواليس “ملهاة” كان نظام الأسد، الأب والابن، يلعبها، تتناوب داخلها واجهات ما يقال و كواليس ما لا يقال.
ظهرت الفيديوهات وكأنها من فصول لم تعرّض لمسلسل “ابتسم أيها الجنرال” الذي اهتم السوريون جميعا (وخصوصا حاشية الأسد) بمتابعته في موسم رمضان 2023. أحسن مكسيم خليل في إظهار شخصية عليلة لزعيم يدير بسادية نظاما عائليا يحكم سوريا بثنائية الشر ثم الشر، متدثرا وجها بشوشا يتحرى الوصول إلى نشوة الابتسامة القصوى.
بدا الأسد سعيدا في تجواله في الغوطة التي يلعنها. مزهوا بما اقترفه ونظامه وجيشه بأحياء صارت هياكل من دمار وبذاكرة بشر قضو أو نزحوا من مدن لم يعد يريدها على أطراف دمشق غير بعيدة عن قصره.
والواضح أن الحدث جرى في قمّة شعوره بفائض القوة، ويقينه بأن النصر بات ساحقا حققته “مدرسة” جيشه، وفق وصف محدثته التي تروي للرئيس الضاحك كيف انكفأ حزب الله الذي هزلت مزاعمه حول حرب الشوارع.
يكذب الأسد وتشاركه المستشارة لونا الشبل وشخص جالس في المقعد الخلفي نادته باسم “أمجد” (عرفنا لاحقا انه أمجد عيسى معاونها والمسؤول الإعلامي السابق في القصر الرئاسي) حفلة ذلك التكاذب. وهو بالمناسبة تكاذب يمارسه ممثلو المشهد على بعضهم أيضا.
لا يخفي الأسد عن مساعديه أنه يكذب، وعليهم إدعاء أسئلة، والزعم بالتفاجؤ بمعلومات، وتزييف ردود يفترض أنها مرتجلة. وقد يدفعنا الإنصات للسيناريو والحوار إلى التساؤل عما اذا كان الأسد كان يعرف أن الشبل تنافقه وتروي له القصص التي تضحكه إلى درجة الاستغراب من مستوى التواطؤ والخفّة التي كان “الرئيس” يسمح به لمن يفترض أنهم “أزلامه” لا شركاءه.
كل من التقى الأسد استنتج فورا، أو لاحقا، وروى أن الرجل كاذب. خرج من كافة العواصم المعنية بالشأن السوري، ومنها القريبة من نظامه، أن الرجل كاذب، حتى بات كذبه وضيعا صبيانيا.
حمّل الأسد كافة من التقاهم من شخصيات العواصم، عربا وعجما، قبل ثورة عام 2011 (لا سيما إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري) أو بعدها، وعودا كريمة واعدة صدقوها، وبنوا عليها مطالعات تسامح مع نظامه وحتى دفاعا عن بقائه، لينتهوا بإجماع بأنه كاذب.
لا تحيد التسريبات عن تأكيد هذه الحقيقة لكنها تفضح مساحات جديدة من درك سفلي لا قاع له. يجوز لهذه “الخلية” الصغيرة المحشورة في سيارة يقودها الرئيس “بنفسه” لزوم المناسبة وصورها، أن تعبث تهكما بالجريمة، والاستهزاء بمنفذيها المتدافعين لتقبيل يد رئيسهم المفدى.
لاحقا تخرج صور لضابط برتبة لواء يجثو مقبلا يد الأسد في منظر يكشف وضاعة قادة جيش كانوا يتوسلون أمام جندهم رضى رئيس البلاد “المتواضع” بين جنده.
لا يذهب الأسد الى بذاءات تليق بعلاقة وصفت بالحميمة مع الشبل. فإما أن ما هو حميم كان زعما مبالغا به، أو أن حضور أمجد في الخلف، مهما كان قريبا عارفا ببواطن الأمور، قيّد ما يمكن أن تذهب إليه تلك الخلوة خلال تلك الرحلة. وتبدو الشبل مسيطرة على الحدث مستدرجة رئيسها إلى هواه: “المواطن الشريف يحلم يشوفني”.
لا يظهر الأسد (ومعه ركابه) أي أسف على سوريا، بل عبّر عن قرف من هذا البلد، على الرغم مما تدخله المشاهد حوله ونكات النميمة المرتبطة برجال النظام (التي ترويها محدثته بأريحية الواثقين) من بهجة على محياه.
تذهب الشبل في لعبة “الاستدراج” إلى حدود وجدانية وكأنها تسبر أعماق حالة نفسية. تسأله عن شعوره حين يشاهد صوره منتشرة في الطرقات. بدا وكأن الأسد استيقظ على سؤال لا يُطرح داخل جلسة عنوانها “نحن نعرف بعضنا”.
يعرف أن الشبل تعرف أن النظام هو من يعلّق صوره فتسأله ما شعورك وأنت تشاهد صورك. يرد مربكا أن “عقله لا يراها”. يأتي الجواب معبّرا عن اجتياز الديكتاتور عتبات “التطبيل” مرتقيا إلى مستويات ترسمه إلهاً لا يستغرب عبادة البشر ولا يراها.
نعرف أين الأسد. فرّ محمولا قبل عام بلوجستيات روسية. يتأمل من مقرّه الروسي “الأيام الحلوة” التي تكشفها الفيديوهات المسرّبة ساخرا من حكم لا يبكيه، على ما يقوله تقرير رويترز الأخير، على عكس شقيقه ماهر وأركان نظامه الكبار الذين يدبرون، وفق نفس التقرير، تحريض “الساحل”. لا نعرف ماذا حل بأمجد الذي كان حاضرا، قلّ كلامه، ونقل هاتفه مشاهد خلفية لمسرحية تنتقل مشاهدها من تفاهة إلى سفاهة. نعرف أن المستشارة، التي امتلكت ومحيطها (شقيقها على الأقل) علاقات روسية، قُتلت على شكل “حادث سيّر” ولم يحضر النظام جنازتها.
تقول الرواية الإعلامية إن الشبل احتفظت بالفضيحة داخل ظرف “سري جدا” محشوٍّ بكل الادلة التي تقود، أو يراد لها ان تقودنا، إلى أن نهايتها مرتبطة بالمشاهد المحذوفة من شريط التلفزيون السوري الرسمي آنذاك.
ونعرف أيضا أنه على مشارف الذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد خرجت، في هذا التوقيت، تسريبات رويترز والفيديوهات وكأنها رسائل تحمل مضامين متعددة الأغراض عن مخاض عاشته سوريا لم تنته فصوله، وأن هناك من يتآمر ويمنّ النفس للعودة إلى زمن ساد به أسد تلاعب به شبل.




