
بقلم: إكرام عبدي
معذبون في الأرض أولئك المبدعون الذين زجّت بهم الأقدار في أرض الإدارة، زيٌّ وسلوك وحديث ويوميّ رتيب يلقي بظلاله على مبدع أقصى أمانيه وطموحاته التحليق في عوالم الحلم والخيال، مبدع شيمته الجنون والانفلات والجموح والأحلام والرغبات والشطحات، الوظيفة عبئ نفسي وذهني وجسدي يظل يحمله على كاهله وهو بكامل رهافته وحساسيته، بل فيروسات المبدع المؤذية، تتسلل رويدا في نسيج خلاياه حتى يقضى بها نحبه،كيف يمكن أن تظل روحه هائمة محلّقة دون أن تُعفّر بتراب الوظيفة وتتجمد بصقيع البيروقراطية؟
هي حالات شذ وجذب يعيشها بين فضاءين متنافرين، بين طقوس حارقة لذيذة وروتين بارد، ربما مانستشفه من تفاهة ولا معنى حولنا أقسى علينا من رتابة مقيتة نقضيها بين ردهات إدارة مُعدية في أغلب الأحيان، لكن المبدع كعادته يجيد التحايل وتخليق الوقت والفضح وترويض كل التفاصيل لصالح الإبداع، والتقوقع كأيك عريش ينكفئ بحنو على بعض ثماره الناضجة، ليصنع لغة على أنقاض لغة باردة جافة بعيدة عن المحمولين الفني والجمالي.
وهل الانفلات من رتابة الإدارة يعني الزج بقلمنا في فوضى الإبداع؟
فالكاتب اليوناني هاروكي موراكامي لم يتحرر من أسر عمله في نادي الجاز إلا حين ضمن لنفسه دخلا قارا وثابتا من رواياته، هذا الأمر يبدو مستحيلا في وطننا العربي، ذلك أنه من الصعب العيش من فيء الكتابة، فموراكي كان يعتمد روتينا يوميا صارما، يبدأ بالاستيقاظ باكرا والكتابة والجري والسباحة والقراءة والموسيقى والنوم التاسعة ليلا، هو يومي مكرور لهاروكي في عوالم الإبداع، لكنه لن يئد روحه ولن يبعث على السأم والضجر، رغم ما يوحي من رتابة ظاهريا فهو مزهر في دواخله، جنون معقلن وشياطين النظام والالتزام ليس من السهل تقمصها، يستلزم الأمر طاقة ذهنية وجسدية عالية.
في حين أن الوظيفة لم تعق الكتابة عند كافكا، وتينيسي ويليامز الذي كان يعمل في شركة أحذية ودي إتش لورانس الذي كان يعمل في بنك، حيث اضطروا للكتابة ليلا، بشكل أضفى على كتابات كافكا خاصة طابعا كابوسيا جنائزيا مخيفا، أما نجيب محفوظ فلم تشكل الوظيفة حجرة عثرة لعبقريته الإبداعية، بل كلما أزاحها بهشاشته وحكمته البليغة إلا وتدفق الإبداع بشكل إنساني ليصل إلى العالمية.
كل المؤسسات بتجلياتها هي سم الإبداع القاتل، لكن أحيانا لا يستطيع المبدع الانفلات من قبضة المؤسسة لاعتبارات مجتمعية واقتصادية أوسياسية أو لنقل لجبن خاص به، فيراوغ مجازيا واستعاراتيا لتهشيم كل جاهزية وإعادة البناء وخلق عوالم بشخصيات خيالية ووقائع مختلقة، مدّعيا في غالب الأحيان أن تشابهها بالواقع هو من وحي الصدفة فقط.
* كاتبة وشاعرة من طنجة