
نطوي عام 2023 ونستقبل العام الجديد 2024 على وقع تداعيات طوفان الأقصى، الذي إمتد طوفانه الروحي في جميع بقاع الأرض. وأعاد مسألة القدس وفي قلبها المسجد الأقصى للواجهة باعتبارها أحد أهم أسباب الصراع الذي قام عليها الكيان الإسرائيلي بأسس صهيونية وتلمودية تخدم مصالح الدول الغربية بالمنطقة خاصة القوة الانجلوساكسونية والفرنكفونية التي لها تاريخ استعماري.
وأسقط طوفان الأقصى الفلسفة التي قامت عليها اتفاقيات أبراهام وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بالضفة والقطاع في مواجهة الاحتلال، وأبرزت قضية الأسرى ببعدها الإنساني والحقوقي، وأكدت ضرورة معالجة حصار غزة أو ذلك السجن الكبير الذي يحوي أكثر من مليوني إنسان.
وحرر طوفان الأقصى العقل العربي والإسلامي من وهم التفوق الإسرائيلي، وعلى الصعيد الداخلي للكيان أفقدت هذه المعركة المجتمع الإسرائيلي بمكوناته المختلفة الثقة في نفسه وفي قدرته على الاستمرار في احتلاله وغطرسته، وجعل قيادته العسكرية في وضع حرج واثبت انه جيش بلا أخلاق ولاضمير رغم البروباغندا التي قلبت الحقائق وفضحته لدى الرأي العام الغربي الذي حرر من هذه البروباغندا على مدار 7 عقود.
وبدأ وعي عالمي بالتشكل أن ماحصل في فلسطين عام 1945 ماهو الا إغتصاب للأرض والشجر والحجر، وأن بذرة تأسيس دولة الكيان الاسرائيلي المحتل بدأ من خلال عصابات الهاجانا وغولاني اللتان سقطتا في معارك غزة على يد المقاومة الفلسطينية.
ولم يتوقف الخبراء والمسئولون الإسرائيليون عن الإقرار بحجم الكارثة التي حلّت بهم، وهم يكررون عبارة أن ما حصل هو فشل سياسي، واستخباراتي، وعملياتي ويواجهون صعوبة تصديق حقيقة الصفعة التي تلقوها على وجوههم، دون تفسير كيفية اختراق المقاومين السياج بجرافة وأدوات بسيطة يوم السابع من أكتوبر.
ومن النتائج الإستراتيجية لطوفان الأقصى وبالرغم من حجم الدمار و كلفتها الإنسانية، فإنها أعادت القضية إلى بعدها العقائدي، والارتماء بمشروع المقاومة إلى حضنه الطبيعي العربي الإسلامي، وفرض عدالة القضية على جدول أعمال هذا العالم الصامت واستغلال فرصة تصادم الإرادات بين القوى العظمى.
وبسبب التقدم الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية في الجانب العسكري ليس من السهولة لإسرائيل ومعها الغرب تفكيك المنظومة العسكرية لحركة حماس، بل النظر الواقعي يشير بأنها دخلت فعلا مرحلة جديدة من التسلّح العسكري والخطط الحربية، بما يجعل فصائل المقاومة ذات قدرات جيش دولة رغم التباين العسكري في حجم التسليح. لكن معادلة الإيمان كانت أقوى من أي معادلات وأخرجت قيم أخلاقية جديدة أبهرت العالم وأسقطت قناع نخب وساسة.
وهذا مأشار إليه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، بقوله إن طوفان الأقصى إستئناف جديد للحضارة، وإنبعاث جديد للأمة، وميلاد جديد للإنسان، من خلال قيم جديدة يكتشف فيها المرء ذاته، ومفاهيم جديدة يتلمس فيها حريته في ظل شيوع قيم التعبيد للإرادة الإسرائيلية، وشروط جديدة يستعيد فيها فطرته في واقع شاعت فيه قيم الضلال.
وأكد بأن”المقاومة الفلسطينية تكتب اليوم تاريخ الأمة، وتقود الإنسانية نحو النور بما ينفتح بصنيعها من عقول، وما يقع وسيقع جراء فعلها المبهر من مراجعات ذاتية، فردية وجماعية”.
وأوضح الفيلسوف المغربي أن “أعظم مظهر للعقل العربي والإسلامي في العصر الحديث هو ما تجسد في طوفان الأقصى”.
وختاما يمكن القول ورغم هذا المخاض العسير فإن مآلات طوفان الأقصى مؤلم جدا للشعب الفلسطيني، في سياق مقاومته الطويلة، وفي ظل الخذلان العربي، إلا أنه رسم مرحلة جديدة في خارطة تحرير بلاده. وضرب أمثلة أخلاقية، قلبت موازين قانون العلاقات الدولية الذي يقوم على نزعة القوة بمنظور مكيافيلي.
وأثبتث المقاومة الفلسطينية، أنها هي الوحيدة القادرة على حسم هذا الصراع المتشابك، بعيدا عن أي مزايدات أو تنازلات كما حصل في إتفاق أوسلو منذ ثلاثون عاما.