آراءسياسة

إيران: شرط “الأخلاق” بعد إلغاء شرطتها

أبدى النظام في إيران حرجاً وارتباكاً وتلعثماً في الكيفية التي يقارب بها الحدث

بعد ثلاثة أشهر على مقتل الشابة مهسا أميني، قررت سلطات طهران حلّ الجهة الأمنية التي ارتكبت الجريمة. صدر القرار لعلاقته بالإثم الذي أزهق حياة صبية اتُهمت بعدم التقيد بقواعد وضع الحجاب، ما أدى إلى اندلاع ما يمكن وصفه بـ”الثورة”. غير أن أصحاب القرار لم يجدوا حتى الآن آثماً يُدان، ولم يبدّلوا من رواياتهم بشأن ظروف الجريمة، ولم يعترفوا بأن قاتلاً وراء القتل.

فجّر غياب الشابة الإيرانية الكردية الأصل حراكاً شاملاً بالمستوى الأفقي العابر لمناطق إيران وطوائفها وقومياتها، وآخر عمودياً شمل طبقات المجتمع من مستواها الشعبي إلى مستواها النخبوي، مروراً بالشرائح المتوسطة المهنية والنقابية مع ما تختزنه من قوى بارزة في ميادين الفن والرياضة والثقافة.

وفّر حدث الحجاب وسيلة للحراك وصاعقاً لتفجّره، لكنه لم يكن بحدّ ذاته هدفاً على النحو الذي أوحى به قرار إلغاء “شرطة الأخلاق” في البلاد. ومن يتأمل بعناية تطوّر خطاب المنتفضين وراديكالية شعاراتهم، لاستنتج بجلاء توق الشارع إلى تغيير سياسي على مستوى النظام نفسه وتركيبته الأيديولوجية وهيكله الديني الاستبدادي. ولم تتردد الشعارات والهتافات في مهاجمة رأس الدولة، مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، وأحرقت نيران الحراك منزل عائلة مؤسّسها روح الله الخميني في بلدة خمين مسقط رأسه جنوبي طهران. نفت وكالة “تسنيم” الأمر، لكن النفي لم يخف ابتهاج المحتشدين حول ذلك المنزل المزعوم المحترق.

أبدى النظام في إيران حرجاً وارتباكاً وتلعثماً في الكيفية التي يقارب بها الحدث. تسرّبت نقاشات في صفوفه حول سبل معالجة ما بات ظاهرة تختلف في الكمّ والنوع والظروف عن حراكات سابقة شهدتها البلاد. من المحاججين من طالب بالحوار ودعم مبادرة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ومنهم من طالب بالحزم والحسم حتى لو أدى الأمر إلى حمام دم. وفيما انكفأ المرشد إلى المربع التقليدي البليد في تخوين الناس واتهام شياطين الأرض، فإن الجدل والحيرة والتردد تكشف جلياً خطورة التطور وجسارته.

اختارت سلطات طهران التغافل عن مطالب الشارع السياسية التي قد تمسّ النظام نفسه، بما يفسّر اجتماع الإصلاحيين والأصوليين على رفضها. ذهبت طهران تتذاكى حاصرة المعضلة بإشكالية الحجاب. ألغت السلطات المعنيّة “دوريات الإرشاد” الساهرة على “الأخلاق” من دون أي تفسير للكيفية التي ستعتمدها الدولة لصون تلك الأخلاق. أعلن المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري القرار، مستنداً إلى تبرير جاهز يزعم أن “من ألغى ذلك الجهاز الأمني هو من أنشأه”. ذهب أكثر من ذلك حين “بشّر” بأن السلطتين التشريعية والقضائية ستتوليان مراجعة قوانين إلزامية ارتداء النساء لحجاب الرأس في الأماكن العامة.

تُصدر طهران أحكاماً بالإعدام والسجن، لكنها مع ذلك تسعى إلى تسخيف الحراك الشعبي العام، وربط حوافزه بالحجاب وملابس النساء. ومع ذلك فإن أمر ما أعلنه منتظري يمسّ مباشرة جوهر نظام الجمهورية الإسلامية وعقائدها.

احتاجت جمهورية الخميني إلى قوانين تلزم النساء بارتداء الحجاب عام 1983، كإجراء يجزم بإسلامية نظام البلد بعد 4 سنوات من قيام الجمهورية، وإثر عملية تطهير لـ”الثورة” من ظواهرها اليسارية والليبرالية والعلمانية والمدنية.

ثم احتاجت جمهورية خامنئي لتوفير أمان الجمهورية الديني من خلال قوانين الرئيس محمود أحمدي نجاد عام 2007 بإنشاء شرطة تراقب “أخلاق” العباد وتحاسبها. وحين يلغى القرار الثاني ويعاد النظر في القرار الأول، فإن في الحكاية ما يشكك بكل الحكاية، ذلك أن لإسقاط الرمزيات الدينية عدوى تطال آلياً شرعية النظام ومبرر لبوس الدين للحكم في البلاد.

والأخلاق في عرف النظام الإسلاموي في إيران تتعلق بزيّ النساء فقط. وهو عرف لطالما كان ديدن الدين حين يصبح نظاماً سياسياً، سواء في أفغانستان في عهد حركة “طالبان” حالياً مثلاً، أم في السودان تحت حكم تحالف الترابي – البشير سابقاً مثلاً آخر، أو حتى في مرحلة “الصحوة” التي بشّر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بسقوطها في السعودية مثالاً ثالثاً. وإذا ما تحلى الأمير السعودي بشجاعة يقوّم فيها حقبة من تاريخ بلاده قاطعاً بنهايتها، فإن أولي الأمر في طهران ما زالوا عاجزين عن مراجعة ما يرونه نهاية لـ”الثورة” ومهدِّداً للفقيه وولايته.

غير أن الأخلاق في عُرف الحاكم في طهران وفي نصوص المدعي العام هناك لا تمسّها كل السلوكيات البشرية الأخرى، لا سيما الذكورية، سواء في انتشار المحسوبية والفساد، أم في الاستئثار بالفضاء السياسي العام واستخدام قبضة “الحرس” والباسيج وأجهزة الأمن لصدّ الرؤى الأخرى، أو حتى في الوقوف وراء التدمير المنهجي الذي تمارسه سلطة البلد داخل أربع عواصم عربية تتفاخر باحتلالها.

على أن “ثورة مهسا” التي يعترف النظام بأن مئات من الإيرانيين قتلوا من أجلها، لا يمكن أن يخمدها ارتجال طارئ قد يتساهل في عدد السنتيمترات المسموح إظهارها من شعر النسوة في البلاد. وإذا ما كانت انتفاضة النساء الغاضبات من مقتل مهسا أميني قد أجبرت سلطات إيران على إلغاء جهاز أمني سخّرته لضبط أخلاق الإيرانيين (الإيرانيات خصوصاً)، وفرضت على البرلمان والقضاء إعادة النظر في قوانين الحجاب، فإن دينامية “أحجار الدومينو” ستعمل على تفعيل مستويات أخرى قابلة للمراجعة، بما في ذلك نصوص دستور الجمهورية التي يُقرّ رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي بأن لا مانع من تعديلها.

ولئن كان من الحصافة عدم المبالغة في استشراف مستقبل إيران بعدما أزالت طهران عن الأخلاق شرطتها، غير أنه حريّ مراقبة جدل داخلي يستبطن قلقاً من مستقبل الجمهورية الإسلامية، في زمن تحتشد فيه التحولات الدولية التي تجعل من طبيعة جمهورية المرشد نموذجاً متقادماً متقاعداً، ناهيك بقلق الوجود والبقاء المرتبط كل يوم بصحة خامنئي وغموض خلافته.

https://anbaaexpress.ma/9yjy4

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى