يُعدّ الاستقرار في المنطقة المغاربية اليوم أحد أهم التحديات التي تواجه الشعوب والحكومات على حدّ سواء، في ظل استمرار التوتر بين الجزائر والمغرب وما يخلّفه من آثار سياسية واقتصادية وأمنية تُضعف إمكانيات التكامل المشترك.
ومن هذا المنطلق، تصبح الوساطة المغاربية ضرورة ملحّة وليست خيارًا ترفيًا، لأن مستقبل المنطقة بات مرتبطًا مباشرة بقدرتها على إدارة خلافاتها الداخلية بروح جماعية قادرة على تجاوز الحسابات الضيقة.
وفي هذا السياق، يبرز الدور الذي يمكن أن تضطلع به الدول المغاربية الثلاث—موريتانيا وتونس وليبيا—باعتبارها أطرافًا محايدة نسبيًا، تمتلك من الخصوصيات ما يجعلها جسرًا طبيعيًا بين الجزائر والمغرب.
تحتل موريتانيا اليوم موقعًا محوريًا في أي تصور لوساطة إقليمية، خاصة في ظل ما تشهده من استقرار سياسي نسبي مقارنة بمحيط إقليمي مضطرب.
فرغم التحديات الاقتصادية والتنموية، ما تزال نواكشوط تحافظ على علاقات متوازنة وهادئة مع الجزائر والمغرب دون أن ترث عنهما تراكمات صراعية تجعلها محسوبة على أي طرف.
هذا التوازن، المدعوم بدبلوماسية هادئة وبراغماتية، يمنح موريتانيا قدرة مميزة على التحرك دون استفزاز أي من الجانبين. كما أن موقفها الحذر والمتزن في ملف الصحراء الغربية يرسخ صورتها كطرف محايد يسعى إلى الاستقرار لا إلى الاصطفاف، ما يفتح الباب أمام قبول مبادراتها بوصفها جزءًا من مصلحة مغاربية مشتركة.
وإلى جانب ذلك، تُشكل الجغرافيا الموريتانية عاملًا مؤثرًا في فهم دورها، فهي تقع في نقطة تقاطع بين الجزائر والمغرب ومنطقة الساحل، ما يجعل أمنها الداخلي مرتبطًا بشكل وثيق باستقرار جيرانها، ويمنحها حافزًا موضوعيًا للعمل على تخفيف التوتر وتقريب وجهات النظر بين الطرفين ضمن رؤية أوسع لتعزيز الاستقرار في المنطقة المغاربية.
وفي الوقت نفسه، تمثل تونس رصيدًا مهمًا في أي جهد وساطي مغاربي، على الرغم من الظروف السياسية والاقتصادية التي تعيشها حاليًا.
فالدبلوماسية التونسية ما تزال تحتفظ بإرث طويل من الاعتدال والبحث عن التوافق، وهو إرث يمنحها قدرة معنوية على لعب دور ميسّر بين وجهات نظر متباينة. كما أن المجتمع التونسي، بحيويته المدنية والثقافية، ما يزال قادرًا على التعبير عن قيم الحوار والانفتاح، وهي قيم ضرورية في أي مقاربة تهدف إلى خلق مساحة مشتركة بين الجزائر والمغرب.
إن مجرد إشراك تونس في مسار الوساطة يضفي بعدًا رمزيًا مهما، فهي كانت دائمًا من أبرز المدافعين عن الفضاء المغاربي المشترك، وتشكل جسرًا ثقافيًا وسياسيًا بين ضفتي المغرب والمشرق بما يجعل حضورها مطمئنًا للطرفين ومؤكدًا أن الحوار ليس تنازلًا بل استعادة لروح التعاون التي تأسس عليها مشروع المغرب الكبير.
أما ليبيا، ورغم الانقسام المؤسساتي والتحديات الأمنية التي تواجهها، فإن إشراكها في جهود الوساطة يحمل أهمية إستراتيجية ورمزية لا يمكن تجاهلها.
فليبيا تبقى جزءًا أصيلًا من منظومة المغرب الكبير، وحضورها—حتى بحدوده الدنيا—يعكس رغبة حقيقية في صياغة مقاربة شاملة لا تقتصر على طرفين بل تشرك جميع مكونات الفضاء المغاربي في بناء نهج جديد للحوار.
كما أن موقعها الجغرافي وتداخل ملفاتها الأمنية مع دول الجوار يجعل استقرارها جزءًا لا ينفصل عن استقرار المنطقة بأكملها.
وإشراك ليبيا في مسار التقريب بين الجزائر والمغرب يساعد على توسيع دائرة الإجماع ويمنح العملية بُعدًا جماعيًا يشعر معه الجميع بأنهم مساهمون في الحل، لا مجرّد مراقبين لخلاف بين دولتين محوريتين.
إن تلاقي أدوار موريتانيا وتونس وليبيا يمكن أن يشكل رافعة فعلية لإطلاق مسار جديد يركز على بناء الثقة بين الجزائر والمغرب عبر خطوات بسيطة ومتدرجة، دون القفز مباشرة إلى الملفات المعقدة.
فالهدف الأول ليس حل كل القضايا، بل خلق مناخ يسمح بإعادة قنوات التواصل وبتخفيف الاحتقان الإعلامي والسياسي، تمهيدًا لمسار حوار أوسع يندرج ضمن رؤية مشتركة لإحياء المشروع المغاربي.
وقد أثبتت التجارب الدولية أن الوساطات الإقليمية، حين تكون متعددة الأطراف ومنسجمة مع خصوصيات المنطقة، تكون أكثر قبولًا واستدامة من المبادرات الفردية أو الضغوط الخارجية.
إن المنتدى المغاربي للحوار، ومن موقعه كفضاء يعنى بتقريب وجهات النظر وتعزيز ثقافة الحوار، يرى أن الدور المحوري الذي يمكن أن تضطلع به الدول المغاربية الثلاث—موريتانيا وتونس وليبيا—من خلال وساطة جماعية، يستند إلى حياد نسبي وتوازن مسؤول، ويعتمد على رصيد دبلوماسي وخبرة إقليمية تمكّنها من تهيئة المناخ الملائم لإعادة فتح قنوات الحوار بين الجزائر والمغرب.
ولا يقتصر نجاح هذا المسعى على رمزيته فحسب، بل يمثل مدخلًا عمليًا لإعادة بناء الثقة بين البلدين، بما يسمح بإحياء مسارات التعاون التي تعطّلت لسنوات، ويفتح الطريق أمام صياغة رؤية مشتركة قادرة على تعزيز تماسك المنطقة وحماية استقرارها.
وفي هذا الظرف تحديدًا، تصبح التهدئة وعودة العلاقات بين الجزائر والمغرب حجر الأساس لإعادة ترتيب البيت المغاربي، وشرطًا ضروريًا لتمكين شعوب المنطقة من التطلع إلى مستقبل أكثر استقرارًا وتوازنًا وانسجامًا.
* المنتدى المغاربي للحوار




