أحمد متراق
منذ بداية النزاع مع البوليساريو بعد خروج المستعمر الاسباني من الصحراء المغربية سنة 1975 ظل المغرب لسنوات طويلة في وضعية المدافع والمدبر للأزمة دائما، فكان يلعب دور المتفاعل مع ما كانت تقوم به الجبهة وصنيعتها الجزائر وداعميها ليبيا وكوبا وغيرهم من مناورات واستفزازات دائمة سياسيا وعسكريا في ظل القوة التي كانت تتمتع بها هاته الدخمسون سنة.. من العمل الديبلوماسي الرزين في خدمة القضية الوطنيةول والدعم السخي الذي كانت تقدمه لخدمة الأجندة الانفصالية من شراء الذمم وحشد الدعم الدولي خاصة على مستوى التيار الاشتراكي.
فكيف تعامل المغرب خلال نصف قرن من السياسة الخارجية مع الملف ؟
– دخول البوليساريو لمنظمة الوحدة الافريقية وانسحاب المغرب
مكن التوغل الكبير للوبي الجزائري في العمق الإفريقي ودعمه القوي للبوليساريو إلى جانب القوى ليبيا وجنوب افريقيا من كسب اعترافات عديد الدول بالجمهورية الوهمية، توج ذلك التوغل بالاعلان الرسمي عن انضمام البوليساريو كدولة عضو داخل المنظمة الوحدة الافريقية في قمة أديس أبابا بإثيوبيا سنة 1984، حيث قررت الأغلبية من الدول الأعضاء في المنظمة قبول عضوية “البوليساريو” كعضو كامل الحقوق, رغم اعتراض المغرب القوي واعتبار الخطوة خرقًا لميثاق المنظمة، لأن هذا الميثاق لا يسمح بقبول كيان غير معترف به من الأمم المتحدة ولا يملك مقومات الدولة.
هذا الانضمام لم يترك أمام المغرب أي فرصة إلا بالإنسجاب من المنظمة في نفس السنة كردة فعل احتجاجية.
الاعلان عن وقف اطلاق النار بين المغرب والبوليساريو
سنة 1988 تقدمت الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الافريقية بخطة سلام سيقبل بها الطرفان, ممهدة للتوقيع التاريخي على اتفاق وقف اطلاق النار تحت إشراف الأمم المتحدة التي قامت بإنشاء بعثة أممية خاصة بمهمة الإشراف على تنظيم استفتاء بالمنطقة سنة 1991.
لكن سرعان ما تم الإعلان عن صعوبة تنظيم استفتاء ديمقراطي بالصحراء بسبب العراقيل التي تعمدت الجزائر والبوليساريو وضعها أمام الهيئة الأممية مانعة إياها من القيام بمهامها.
فالجبهة رفضت رفضا قاطعا مشاركة الصحراويين المقيمين بالصحراء المغربية في الاستفتاء, رغم إشراف المينورسو على عملية شاملة ودقيقة لتحديد الهوية داخل الصحراء وإعداد اللوائح الخاصة بمن يحق لهم التصويت وفق ضوابط دقيقة جدا معلن عنها بمشاركة شيوخ القبائل الصجراوية.
ليظل الوضع قائما على ما هو عليه, وتعود الأمور مرة أخرى لطاولة المفاوضات داخل أورقة الأمم المتحدة لكن بدون وجود أي مبادرة مغربية تواجه الأطروحة الانفصالية المنادية بالاستقلال وقتها.
1999 اعتلاء الملك محمد السادس سدة الحكم بالمغرب
سنة 1999 وبعد اعتلاء الملك محمد السادس نصره الله عرش المملكة، كان واضحا ومنذ البداية بأن الحركية ستعود للملف من جديد بعد سنوات الركود, لكن بنفس جديد ورغبة ملكية قوية في خلق دينامية برؤية جديدة وهي ما وصفه جلالته في خطاباته الأخيرة “بمسار التغيير”.
فكانت أولى المؤشرات عن هذا التحول والمسار، إعفاء وزير الداخلية والمتحكم الأول في ملف الصحراء آنذاك “إدريس البصري” من مهامه، والذي كان يعتبر ملف الصحراء قضية سيادية لا تقبل مشاركة الأحزاب والسياسيين والمثقفين في النقاش حولها أو المشاركة في صياغة القرارات المرتبطة بها, وقد شكل قرار الإقالة وقتها تحولا جذريا في تعامل الدولة مع الملف واعتباره قضية وطنية تهم كل الفاعلين والوطنيين وأولهم الصحراويون باعتبارهم المعنيين المباشرين بالملف.
هذه الرغبة الملكية جسدتها بالملموس الخطوة الذكية بالإعلان عن تأسيس المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية سنة 2005.
المجلس الذي وازن في تركيبته بين الكفاءات الصحراوية الشابة والمثقفة، وأخرى من شيوخ الصحراء من خبروا أسرار وتاريخ المنطقة وخباياها.
فكانت كهيئة استشارية ملكية يعهد لها النظر وتقديم الاقتراحات وإبداء الرأي في المستجدات المرتبطة بالملف وأيضا في البرامج التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تقوم بها الدولة بالأقاليم الجنوبية، كما تم اعتمادها كهيئة شريكة في المفاوضات مع البوليساريو.
2007 تقديم مقترح الحكم الذاتي للاقاليم الجنوبية
سنة 2007 سيتوج المغرب بقيادة جلالة الملك “مسار التغيير” في السياسة الخارجية وفي التعامل مع ملف الصحراء أساسا. كان عبر تقديمه ولأول مرة مبادرة ملكية جادة وطموحة كحل واقع، عملي وصريح لملف الصحراء تمثلت في منح الصحراويين حكما ذاتيا تحت السيادة الملكية لتدبير شؤونهم الخاصة بشكل توافقي.
شكل المقترح ومنذ الإعلان عنه تحولا صريحا في مسار الملف بشكل كلي, فتغيرت لغة الخطاب المغربي الذي اعتبر المبادرة الملكية الحل الوحيد والأوحد للنزاع، واساس أي عملية تفاوضية مستقبلية مع الجزائر وصنيعتها البوليساريو.
وبدأت الديبلوماسية المغربية تتحرك في هذا السياق خارجيا وتضغط بقوة لتجذب دعما دوليا خارجيا لهذا المقترح خاصة من طرف الدول الأعضاء داخل مجلس الأمن.
الانفتاح على العمق الافريقي والعودة للحضن الإفريقي
كانت للجولات المكوكية وسياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي والديني، التي نهجها الملك محمد السادس داخل القارة الافريقية ابتداء من سنة 2010 دور فعال وأساسي في توالي الاعترافات والنجاحات الديبلوماسية بالمنطقة، توجت بعودة المغرب سنة 2017 لحضنه الإفريقي كدولة عضو في الاتحاد الإفريقي وهو ما عزز من مكانته وقوته في المنطقة، كما حافظ المغرب على شركاءه التقليديين وعلاقاته القوية مع فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الخليج أساسا.
سياسة فتح التمثيليات الديبلوماسية بالأقاليم الجنوبية للمملكة
منذ سنة 2019، تبنّى المغرب سياسة دبلوماسية نشطة لفتح قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة بالأقاليم الجنوبية بلغت في حدود سنة 2024 ما مجموعه 29 تمثيلية ديبلوماسية.
في خطوة سيادية تؤكد مغربية الصحراء وتجسّد الدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي كحلّ واقعي للنزاع.
فقد بادرت عدد من الدول الإفريقية والعربية واللاتينية الوازنة والقوية إلى افتتاح قنصلياتها بالعيون والداخلة، مثل الإمارات العربية المتحدة، البحرين، الأردن، السنغال، الكوت ديفوار، الغابون، الكونغو الديمقراطية، جيبوتي، هايتي، سورينام، وغواتيمالا.
هذا التوجه الجديد شكل تحولًا نوعيًا في الموقف الدولي، لأنه يترجم مما لا يدع مجالا للشك اعترافًا فعليًا بالسيادة المغربية على الصحراء، ويدعم خيار التنمية والاستقرار بالمنطقة.
كما ساهمت هذه القنصليات في تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري بين المغرب والدول الإفريقية، وترسيخ موقع الأقاليم الجنوبية كبوابة استراتيجية نحو عمق القارة.
وهكذا أصبحت الدبلوماسية القنصلية إحدى الركائز القوية في الترافع الميداني عن مغربية الصحراء، ورافعة لتكريس واقع جديد على الأرض تدعمه الشرعية الدولية والقبول الإقليمي المتزايد.
تحرير معبر الكركرات
دأبت جبهة البوليساريو منذ بداية الالفيات على القيام ببعض الأفعال الاستفزازية حيث تقوم بين الفينة والأخرى بحشد بعض الميليشيات والمرتزقة لقطع الطريق الحدودية بين المغرب وموريتانيا على مستوى المعبر الحدودي الكركرات، هذه الاشكال الاستفزازات المتوالية والتي كانت تمس بشكل مباشر بالحركة التجارية والاقتصادية التي تربط بين المغرب والعمق الإفريقي وتعرقل حركة السلع والأشخاص في خرق واضح لاتفاق وقف إطلاق النار لسنة 1991, كان من الواجب التعامل معها بحزم.
وهو ما ستقوم القوات المسلحة الملكية المغربية يوم 13 نونبر 2020، حيث تدخلت في عملية سلمية وغير هجومية لتأمين الممر الحدودي وإعادة فتحه أمام الحركة التجارية،بعد أيام من غلقه من طرف الميليشيات التابعة للبوليساريو دون أي اشتباك مسلح.
حدث لم يكن ليمر مرور الكرام, فالبوليساريو وفي ردة فعل ارتجالية تثبت بما لا يدعو للشط قصر نظرها وطريقة اتخاذها العشوائية للقرارات, قامت بالإعلان الأحادي الجانب عن انسحابها من اتفاق وقف إطلاق النار الموقع تحت رعاية أممية سنة 1991 والعودة لما سمته بالكفاح المسلح, فما كان منها إلا أن قامت بعمليات عسكرية استهدفت مناطق مدنية.
وهوما تم تضمينه في تقرير المبعوث الأممي للصحراء الذي عبر عن انزعاجه من العمليات الغير مبررة من طرف الميليشيات المسلحة للبوليساريو.
في المقابل بدأ المغرب عملية تطهيرية استهدفت المنطقة العازلة بشكل كامل, في تجسيد قوي للسيادة الكاملة على التراب الوطني.
الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية.. قفزة ديلوماسية تاريخية
سنة 2020 كانت حاسمة بشكل كبير في هذا الملف, فبعد عملية تحرير معبر الكركرات، أصدر الرئيس الأمريكي في وقتها “دونالد ترامب” بتاريخ10 دجنبر 2020إعلانًا رئاسيًا رسميًا يعترف فيه السيادة الكاملة للمملكة المغربية على منطقة الصحراء.
كما قررت الولايات المتحدة فتح قنصلية بمدينة الداخلة لدعم الاستثمارات والتنمية بالمنطقة.
هذا القرار اعتبر حينها سابقة دبلوماسية كبرى، لأنه أول اعتراف من قوة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن بمغربية الصحراء, كما شكل منعطفًا استراتيجيًا في الموقف الدول.
وساهم بشكل قوي في فتح الباب أمام دول أخرى لدعم صريح لمغربية الصحراء والاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء, حيث استمرت منذ وقتها سلسلة الاعترافات الدولية من دول عظمى وقوية سياسيا واقتصاديا كألمانيا وبلجيكا واسبانيا وفرنسا وبريطانيا.
عودة ترامب للحكم والدفع بملف الصحراء للسرعة القصوى في طريق الحسم
بعد سنوات من الركود في ملف الصحراء على مستوى النقاش الأممي, والجمود الأمريكي خلال فترة حكم الديمقراطي “بايدن” بالولايات المتحدة الأمريكية.
شكلت عودة ترامب للبيت الأبيض دافعا قويا لإعادة الروح للنقاش حول ملف الصحراء وتبنت الولايات المتحدة الامريكية مقترح الحكم الذاتي كأساس وحيد للنقاش والتفاوض بين الأطراف المعنية,.
وباعتبارها صاحبة القلم تقدمت الولايات المتحدة الامريكية بمشروع قرار أمام مجلس الأمن يدعم صراحة الموقف المغربي ويجسده كخيار وحيد للتفاوض وهو ما رفضته الجزائر والبوليساريو.
وخلال شهر من النقاشات والمداولات نجح المغرب ومعه الولايات المتحدة بتاريخ 31 أكتوبر 2025 في تمرير قرار تاريخي لا شك بأنه بداية الإعلان عن مرحلة جديدة من ملف الصحراء عبر بوابة الديبلوماسية, بواقعية اكبر وبخطوات متسارعة لتنزيل المشروع المغربي بالصحراء بفعالية وجرأة أكبر ودعم دولي منقطع النظير.
هكذا إذن تحول المغرب خلال الربع قرن من حكم الملك محمد السادس من التدبير وانتظار الفعل لمقابلته برد الفعل مع قضية الصحراء، إلى سياسة التغيير والمبادرة والانفتاح.
وهكذا حصدنا نجاحا تلو نجاح بفضل تظافر الجهود والعمل وفق رؤية ملكية سليمة في ملف عمر طويلا داخل أروقة مجلس الأمن.
وهكذا توجنا ليلة أمس من داخل أروقة الأمم المتحدة مسارا طويلا من العمل والاجتهاد والرؤية السديدة لطي الملف نهائيا بما يخدم المنطقة ككل.
* كاتب وأستاذ باحث في العلوم السياسية




