سياسةمجتمع
أخر الأخبار

جيل زيد 212.. الموجة الشبابية و”راكبو الأمواج” – نداء لفرز الحركة

ولأول مرة منذ سنوات، فتحت قنوات التلفزيون العمومي، التي طالما كانت تُطبّل للحكومة وتغلق أبوابها في وجه النقد، شاشاتها لهذا الجيل، فكان ذلك مكسبًا رمزيًا يعكس حجم التحوّل الذي أحدثته الحركة في المزاج العام

د. خالد خالص

منذ السابع والعشرين من شتنبر، تهز عدة مدن مغربية موجة من الاحتجاجات الشبابية يقودها جيل جديد يعرف باسم “جيل زيد212”.

في جوهر هذه الموجة غضب عميق من أعطاب منظومتي التعليم والصحة، ومن اتساع الفوارق الاجتماعية، وبطالة الشباب، واستشراء الفساد، وغياب استقلالية القضاء.

وقد نُسّق هذا الحراك بقدرٍ عال من التنظيم عبر المنصّات الرقمية وفضاءات “ديسكورد”، فازدادت قوته واتسعت رقعته بسرعة قياسية لتشمل معظم المدن المغربية، بل وتجاوزت الحدود حيث خرج شباب مغاربة في بلدان أخرى تضامنًا مع أقرانهم في الداخل.

إن نجاح هذا الحراك في بدايته يعود إلى صدقه وعفويته: شباب، ولأول مرة بهذا الحجم، يترجمون تراكم الإحباط إلى فعل ميداني في الشارع.

شعاراتهم كانت صريحة ومؤلمة: “نريد عدالة وكرامة”، “نريد تعليمًا عموميًا في المستوى”، “نريد مستشفيات لا ملاعب”، “كفى من خيانة الوطن”.

ولأول مرة منذ سنوات، فتحت قنوات التلفزيون العمومي، التي طالما كانت تُطبّل للحكومة وتغلق أبوابها في وجه النقد، شاشاتها لهذا الجيل، فكان ذلك مكسبًا رمزيًا يعكس حجم التحوّل الذي أحدثته الحركة في المزاج العام.

لكن هذه العفوية الصادقة تحمل في طيّاتها هشاشة خطيرة، إذ تغري المتربصين و«راكبي الأمواج».

فقد أظهرت الأيام الأولى، وخاصة اليوم الرابع، كيف يمكن لقضية نبيلة أن تختطف من قبل فئات إجرامية استغلت الظرفية للنهب والكسر والسرقة، أو من قبل انتهازيين يسعون إلى توجيه الغضب الشعبي لخدمة مصالحهم الخاصة، أو لاستعادة مجد ضائع وشهرة إعلامية غابرة.

لقد بدأت ملامح الاختطاف تظهر بوضوح: سياسيون كانوا في حكم الأموات عادوا إلى الأضواء، أحزاب وجمعيات تحاول التسلل لتلميع صورتها، صحافيون جعلوا من الشارع مسرحًا لذواتهم، ومنسيّون من التاريخ (مع بعض الاستثناءات) كتبوا “رسائل مفتوحة” بحثًا عن عودة رمزية إلى الواجهة.

وما زاد المشهد التباسا أن بعض المسؤولين الحكوميين، قد أربكهم المد الشعبي الشبابي، فبدأوا يحاولون التنصل من مسؤولياتهم، وكأنهم لم يكونوا جزءًا من هذه الحكومة، وكأن السياسات التي فجّرت الغضب لا تمت إليهم بصلة.

تصريحاتهم المرتبكة ومحاولاتهم المتأخرة في الدفاع عن أنفسهم لا تزيد إلا في فقدان الثقة، وتؤكد أن الخلل ليس في الشارع، بل في منظومة سياسية ترفض مواجهة المرآة.

ولم يقتصر الركوب على الداخل فقط، بل امتد إلى الخارج أيضا، إذ رأت بعض الدول المجاورة في هذا الحراك فرصة لتصفية حساباتها مع المغرب، فحاولت النفخ في رماده وتغذيته بخطابات التضليل والتشويه عبر ذبابها الإلكتروني وإعلامها الموجه، في محاولة لتمييع جوهره وتحويله من صرخة وطنية إصلاحية إلى مادة للاستهلاك السياسي.

تلك المناورات الخارجية، مهما تلونت، تظل مكشوفة للشباب المغربي الذي أثبت أنه أذكى من أن يُستدرج إلى أجندات لا تخدم سوى خصوم الوطن.

هذه التدخلات، الداخلية منها والخارجية، تُهدّد بتشويش الرسالة الأصلية، وتفريق الصفوف، وتعريض الشباب لمخاطر حقيقية من قمعٍ أو تلاعبٍ سياسي أو حتى من تمييعٍ للمطالب.

لذلك فإن حماية استقلالية الحركة تظل أولوية قصوى. يجب على الشباب الحفاظ على هيكل أفقي وشفاف، مع قنوات معروفة للحوار والتمثيل.

الدعم مرحّب به، لكن في إطارٍ لوجستي أو قانوني، لا قيادي أو توجيهي. وقد كان موقف عمر بلافريج، النائب السابق والمناضل المعروف، مثالًا يُحتذى حين صرّح ليلة أمس في منصة “ديسكورد” بأنه يدعم الحركة دون أن يقدّم “نصائح جاهزة” أو يسعى للقيادة.

كما أن ضمان الطابع المدني والسلمي ضرورة لا غنى عنها، لأن أي انزلاق نحو العنف أو عسكرة الخطاب سيقضي على شرعية الحراك. وعلى الفاعلين المدنيين من محامين ومنظمات وجمعيات وأساتذة أن يقدّموا الدعم القانوني والمؤسسي، لا أن يتسابقوا إلى الميكروفونات أو يستعملوا الحركة كمنبر شخصي. فالحراك ليس مناسبة لالتقاط الصور، بل لحماية الأمل.

إن قوة الشارع يجب أن تتحول إلى قوة اقتراح وإصلاح. ولا سبيل إلى ذلك إلا بصياغة دفتر مطالب واضح ومحدّد يتضمن أولويات وطنية كتحسين جودة التعليم العمومي، والارتقاء بالخدمات الصحية، وتشغيل الشباب، وضمان الشفافية في الصفقات العمومية، وإصلاح منظومة الحكامة المحلية، ومحاسبة الفاسدين، مع تحديد آجالٍ معقولة لتنفيذها.

فالحوار ضروري، لكنه لا يعني المساومة على جوهر المطالب أو تبديد الزخم.

فنجاح أي حركة مواطِنة لا يُقاس بعدد الشعارات ولا بضجيج الشارع، بل بقدرتها على الحفاظ على روحها وهويتها ووضوح رؤيتها دون أن تترك المجال لراكبي الأمواج ليُغرقوها في مستنقع الحسابات الصغيرة.

إن الخطر الأكبر اليوم ليس القمع فحسب، بل غرق النفس الشبابي الصادق في بحرٍ من أسماك القرش العجوزة، التي تتقن السباحة في المياه العكرة وتعرف كيف تلتهم كل موجة واعدة لتعيد إنتاج نفس المشهد القديم.

وغدًا، يُنتظر أن يلقي الملك محمد السادس خطابًا أمام البرلمان في افتتاح الدورة الأخيرة لهذه الولاية التشريعية، في لحظة دقيقة يتقاطع فيها نبض الشارع مع صوت الدولة.

إن المغاربة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى خطاب يلتقط هذا النبض ويترجمه إلى رؤية عملية تُعيد الثقة وتفتح أفق الإصلاح.

فالملك الذي طالما نبّه إلى خطورة الفوارق الاجتماعية ودعا إلى نموذج تنموي جديد، يجد نفسه أمام جيلٍ لا يطلب امتيازات، بل يطالب بكرامة وفرص متكافئة وحياةٍ تسودها العدالة.

وما بين صوت الشباب في الساحات وصوت الملك في البرلمان، ينتظر الوطن كلمة تجمع ولا تفرّق، تُصغي ولا تُلقّن، وتفتح صفحة جديدة من الثقة بين الدولة والمجتمع.

* محامٍ بهيئة الرباط

https://anbaaexpress.ma/vx3im

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى