آراءسياسة
أخر الأخبار

دروز سوريا.. إسرائيل ومشروعها الديغولي

تستخدم إسرائيل منطق التفتيت الجيوسياسي وفق المدرسة الديغولية بنسخها المشوهة الخبيثة...

في 11 تشرين الثاني 2024، أي قبل أكثر من أسبوعين على بدء هجوم “ردع العدوان”، الذي قاده من كان يحمل اسم أبي محمد الجولاني آنذاك على رأس “هيئة تحرير الشام”، على ريف حلب، وقبل 4 أسابيع من سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر،‏ بمناسبة تسلّمه منصبه، ومن خارج أي سياق، أن “إسرائيل موجودة في منطقة وهي أقلية فيها، ولذلك فإن تحالفاتها الطبيعية هي الأقليات الأخرى مثل الدروز في سوريا ولبنان، والأكراد في كل من سوريا والعراق وإيران وتركيا”. وأشار إلى ضرورة بناء “تحالفات قوية مع التركيز على الأقليات الأخرى في المنطقة”.

لن نجد أوضح من هذا الكلام الصادر عن المؤسسة السياسية الإسرائيلية بشأن ما تريده إسرائيل لسوريا من تفتيت له حيثياته لدى العقل الاستراتيجي الإسرائيلي. بالمقابل فإن الوعد بالارتباط المصيري مع الأقليات يمحضّ إسرائيل بشرعية وجود في تقديم نفسها حاميا وضامنا لأمن مكوّنات هم من النسيج التاريخي والديمغرافي العريق في المنطقة وأصلاً بنيويا لحكاياتها. ولطالما، للمفارقة، كان لإسرائيل علاقة ما، مطلوبة أو مفروضة، مع كل حركات ودعوات الانفصال عن دول المنطقة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

تسعى إسرائيل لوضع أقليات المنطقة تحت سقفها والتلاقي مع مظلومياتها سواء تعرّضت تلك المكوّنات لمظلوميات أو جرى استحداثها. والواضح أيضا أن الحدث السوري يوقّر بيئة سياسية دولية حاضنة لتدخل إسرائيل العسكري دفاعا عن دروز سوريا. انتقلت وعود جدعون ساعر من المستوى الايديولوجي إلى المستوى العملي، بحيث تفرض إسرائيل نموذج دعم قد يغري مكوّنات أخرى في هذا سوريا تشكو سوء العلاقة مع المركز في دمشق.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أطلق الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول تقييما رأى فيه أن ألمانيا خطر تاريخي دائم، فقد “خاضت 3 حروب ضد فرنسا في حياة رجل واحد”. واعتبر حينها أن الحلّ يكمن في تفتيت هذا البلد وتقسيمه نهائيا. كان لديغول ما أراد، فتوزعت تركة ألمانيا المهزومة على 4 مناطق نفوذ: الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا.

وكان يفترض أن تؤسّس تلك المناطق دولا تقضي على الوحدة الألمانية وأخطارها. غير أن اندلاع الحرب في كوريا (1950-1953) غيّر المشهد الدولي وأطلق العنان للحرب الباردة، ما انقذ ألمانيا من قدر التفتت، فانقسمت بين معسكريّ الغرب والشرق إلى أن عادت وتوحدت داخل المعسكر الغربي عام 1990.

تستخدم إسرائيل منطق التفتيت الجيوسياسي وفق المدرسة الديغولية بنسخها المشوهة الخبيثة. كان لها شأن في ذلك خلال الحرب الأهلية اللبنانية. ولطالما اشتبه بأدوارها لصالح الحركات الكردية في كل المنطقة. ولم تخف قلقها على أحلام الأقليات في شمال أفريقيا.

ولئن تظهر وقاحة هذه المدرسة في الواجهات السياسية العلنية الإسرائيلية بعدما كانت همهمات داخل أروقة أجهزة المخابرات، فذلك أنها تستفيد من “لحظة إسرائيلية” نادرة وفّرتها “تسونامي” التضامن الدولي المفرط الذي حظيت به إثر عملية “طوفان الأقصى”. باتت مذاك تنعم بضوء أخضر يستبيح “تغيير الشرق الأوسط”، وفق تصريحات رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو.

والحال فإن سوريا ودروزها ودروز المنطقة يعيشون أياما تاريخية تستبطن صراعا بين حكايتهم التاريخية وحكاية جديدة تريد إسرائيل أن ترويها عنهم. فهي تتبرّع بالدفاع عن دروز سوريا وتتطوّع لإطلاق رسائلها النارية مستندة على واقع تجربة الدروز في إسرائيل بصفتها نموذجا عابرا للحدود تصحّ ظروفة القاهرة على أي ظروف تريدها قاهرة في سوريا.

وفيما تُظهر بعض الواجهات الدرزية في سوريا (ولبنان) تماهيا مع الخطاب الإسرائيلي وأدواته، غير أن الخطاب الدرزي الجامع يعيد ويكرر التمسك بالجذور السورية ورفض مشاريع في انفصال واستقلال كانت رُفضت في بداية التشكّل السياسي الحديث لسوريا.

لا خوف على دروز سوريا. ولا أحد يستطيع إعطاءهم دروسا في الوطنية. غير أن التصاق الناس بأوطانها لا تكفيه قواعد أخلاقية. كما أن لعلاقة الناس بدولتهم شروط ومعايير تتطلب حكمة الدولة والقدرة على استيعاب تعدد الأمزجة والهواجس المتباينة بين جماعة وأخرى.

وما حصل في جرمانا وأشرفية صحنايا وغيرها “فتنة” كان من السهل تجنّبها حتى لو بدت مدبرة مبرمجة لإطلاق أحقاد طائفية واضح أن لها أسباب من إرث نظام بائد.

يعمل وليد جنبلاط في لبنان، بحكم ما يملكه من مونة على دروز المنطقة، على تثبيت مبادئ سياسية تهدف بالدرجة الأولى إلى الدفاع عن دروز سوريا وصون تاريخهم السوري العريق.

قاد الرجل منذ عقود، لدى دروز المنطقة، حملات معقّدة لدحض الرواية الإسرائيلية عن الدروز والدعوة إلى رفض تجنّدهم داخل الجيش الإسرائيلي. اختار، في عزّ خلافه مع نظام حافظ الأسد الذي اغتال والده، أن لا يخضع الدروز لخيار إسرائيلي. وبدا في حراكه من لبنان ضد الشيخ موفق طريف في إسرائيل مستجيبا لرأي عام غالب لدى دروز سوريا يستهجن الخطاب الإسرائيلي الزاحف على الطائفة، والذي يجد جهات مصغية له في داخلها.

يبقى أن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على الدولة لأنها الدولة. بدا أحيانا أن التعامل مع المكوّنات يجري إما بارتكاب تجاوزات من قبل “جماعات خارجة عن القانون” وإما عبر تبويس اللحى واسترضاء الغاضبين. والواضح أن تجارب “الساحل” وجرمانا وربما مناطق أخرى تفرض تحديثا للفلسفة التي عملت بها الدولة الجديدة في التعامل مع السوريين.

فإذا كان رفض الاعتراف بالتعدد وفروقاته واعتباره رجس لا يصحّ في دولة العدل والقانون، فإن “الشعوب والقبائل” هي سنّة الخلق ووجب أن “يتعارفوا”. وإذا ما تعذّر ذلك حتى الآن، فإن “اللحظة الإسرائيلية” جاهزة للانقضاض على أحلام سوريا والسوريين جميعا.

https://anbaaexpress.ma/9q5dt

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى