آراءثقافة
أخر الأخبار

العقل المسلم وصدمة الحداثة

التصور العلمي الجديد

بعد تخرجي من كلية الطب استولت علي فكرة كانت تتخمر على مدى سنوات طويلة وهي محاولة رؤية الطب في منظار جديد،  بل رؤية كافة العلوم في هذا الضوء. والذي حرك هذا الموضوع عندي هو نصف آية من القرآن جاء ذكرها عرضاً بشكل خجول متردد في كتاب الفيزيولوجيا، ذلك العلم الجميل الذي كنا نتعرف عليه في ذلك الوقت.

الآية أو بالأحرى نصف الآية هي: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)  وما أثار انتباهي في ذلك الوقت أن الآية لم تذكر حتى نهايتها ؛ مع أن الآية ذكرت من أجل الوصول إلى تقرير جدوى ومغزى الآية، ونهايتها هي كلمتان فقط (أفلا يؤمنون؟).

لقد أثارت هذه الكلمات عندي زوبعة فكرية في محاولة اكتشاف العلاقة بين العلم والإيمان، في البيولوجيا وحرب الفيروسات، في الفيزياء النووية، في الكوسمولوجيا، في الفيزياء الحديثة والنسبية وميكانيكا الكم، في علم مباحث الأعصاب الحديثة، في الجيوبوليتيك والانترنت، في التطور، في التاريخ والرياضيات والفلسفة، في الجنس والأخلاق، في الألسنيات والبرمجة العصبية ومعنى اللغة للإنسان، في التسلح النووي وأبحاث السلم والحرب والأمن الدولي ومشكلة العنف واللاعنف، في التعليم والجينوم القرآني، في قضية المرأة، في الكفاح الأخلاقي، في علم النفس الحديث، في دورة الاقتصاد والكوارث المالية من نموذج خريفي 1928 و2008م بفارق ثمانين عاما، في الانثروبولوجيا وعلم الإنسان وتتبع خطى سير الإنسان، في علم الاجتماع وخرافة قصص حي بن يقظان وروبنسون كروزو وطرزان، في علم الجينات وجراحة الكروموسومات الذي يشكل علم المستقبل وهو أخطر من السلاح النووي، جعلني أنكب على دراسة هذه الظاهرة، في محاولة لبناء فلسفي جديد، يدخل فيها العقل المسلم المعاصرة..

ويتكيف معها بعد أن يهضمها ويتمكن منها، لينتقل بعد ذلك إلى الإبداع فيها.  لذلك كتبت كتابي الأول في حياتي (الطب محراب للإيمان – جزء أول) وعمري يومها في العشرينات،  وبعدها بأربع سنوات الجزء الثاني من نفس الكتاب في ظلمات السجن حيث كنا معتقلين في فرع المخابرات العام في دمشق (فرع 273) الذي طورت فيه البحث خطوة جديدة في رسم معالم فلسفة إسلامية معاصرة للتعامل مع العلوم الجديدة التي تخترق فضاءات جديدة للمعرفة كل يوم. لذا فإن مزية الكتاب هو أنه اقتحم مجالاً جديداً كان رائداً في وقته، ولا يزال يتمتع بصلابة حتى وقت كتابة هذه الأسطر.

والآن وبعد كل هذه الفترة الطويل من المحاولة الأولى أشعر أن هذا الاتجاه الذي شقيت الطرق إليه لا يقتصر على الطب بل يجب أن يشمل كل حقول المعرفة الإنسانية، لذا قمت بمشروع حفر جديد للتعامل مع أحدث المعلومات التي تتدفق إلى السوق الفكرية وهي أنه ليس (الطب فقط محراب للإيمان) بل علم الذرة والفيزياء النووية، البيولوجيا وعلم الخلية الحديث، الكروموسومات واكتشاف الشيفرة السرية للخلق العام ومنه الإنساني..

حيث تحدث الثورة العلمية في القرن الحادي والعشرين، علم النفس الإنساني في مدرسته الجديدة التي طورت مايعرف بعلم النفس الإنساني بعيداً عن فهم الإنسان كدفعة غريزة أو آلة بل ككائن فريد متميز كانت محاولة الكتاب هي في استيعاب الإعصار العلمي، وصدمة الحداثة، تلك التي دخلت العالم الإسلامي وأحدثت مايشبه فقداناً في التوازن الثقافي.

أردت أن أقرأ الطب في ضوء القرآن، واستخرج عجينة جديدة بين العلم والإيمان. (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة 11)  فهمت أن العلم والإيمان هما وجهان لعملة واحدة، بل أردت أن أقلب العلم إلى إيمان، والإيمان إلى علم، وفي اللحظة التي يتم فيها هذا التحول، سيحصل في تاريخ العالم ماحصل في اكتشاف اينشتاين للعلاقة بين الطاقة والمادة، حيث يتم تحول الطاقة إلى مادة وبالعكس.

إن الطاقة ليست إلا إحدى صور المادة، كما أن المادة ليست إلا طاقة مكثفة، وهذا الفهم لطبيعة الكون؛ بل إن نقص هذا الفهم عند الشيطان سابقاً هو الذي أودى به إلى اللعنة الأبدية، حين احتج بتميزه أنه من طاقة وأن آدم (مادة).

وفي الحين الذي نصل فيه إلى معادلة من هذا النوع سيتوقف الصراع بين العلم والدين. من هنا نفهم مامعنى أن القرآن يقرن في كثير من آياته بين العلم والإيمان، أو يشير إلى أن الذين يحملون العلم يعرفون أن ماجاء في القرآن حق فتخشع قلوبهم له. (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) تماماً كما يبذل العلماء الآن جهودهم في فهم القانون (التوحيدي) الذي ينتظم الكون، والذي قضى فيه اينشتاين العشرين سنة الأخيرة من حياته، لدمج قوانين الكون الرئيسية الأربعة وهي الجاذبية والقوة الكهرطيسية وقوى النواة الضعيفة وقوى النواة القوية.

هذه المحاولة (معادلة العلم – الإيمان) لم تخلص من الزوابع بعد،  ولم ترسو هذه السفينة الجديدة العجيبة على شاطيء السلامة، فنحن في صدد إرساء توازن جديد.

هذا التوازن الجديد هو أسلمة المعرفة، وهذا المصطلح الجديد يجب أن نكون حذرين فيه، فليس هناك علم اسلامي ومسيحي ويهودي وبوذي، مانريد بمصطلح أسلمة المعرفة فقط وضع العلم في إطاره الفلسفي الملائم، ضمن الفكر والفلسفة الاسلامية، لاحصراً وحبساً؛ بل فهما للعلم ضمن هذا  الاطار الفلسفي، أي أننا في صدد إرساء العلم من خلال فلسفة العلم.

ومثلا في عالم النبات يحصل شيء مثير عند تطعيم فرع على أصل، مايحدث هو أن الفرع ينمو فيمتص النسغ والدفع من الأصل إلا أن الحيوية تبقى للفرع، والثمار تخرج من الفرع ليست ثماراً غريبة أو ثمار الأصل؛ بل ثمارأً غضة فتية من الفرع ونوعه.

إن (محمد إقبال) الفيلسوف المسلم فعل هذا الشيء أثناء احتكاكه بالحضارة الغربية لإنه أخرج ثماراً يانعة إسلامية من عصارة الفكر الغربي فأبدع كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) نحن نريد أن نعرف مايجد في العالم من ثمرات ليس فقط من أجل التعرف عليها حتى نحقق وظيفة (الشهادة)، لإن الشاهد في أي قضية يجب أن يكون حاضراً واعياً للواقعة،  أو كما قال القرآن (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) (الحاقة 11)..

بل يجب أن نهيء أنفسنا للقفزة الأخرى وهي ليس (لحاق) الآخرين، بل (تجاوزهم)، أي القيام بعمل ريادي في فضاءات المعرفة، مع الانتباه إلى أن تجاوز شيء ما يعني معرفته والوصول إليه قبل تجاوزه، لذا فالعلاقة مع العالم يجب أن تقوم على إدراكه، وإدراكه يجب أن يتم من خلال معرفته..

وهذا اللون من المعرفة ريادي ايضاً،  لإننا يجب أن نخترق العلم وفلسفة العلم ثم إرساء معرفتنا الجديدة. وما يدفعني إلى تسجيل هذه الأفكار أن العلم يندفع بروح (عدمية) فمنذ أن أعلن (فردريك نيتشه) الفيلسوف الألماني قديماً آراءه الخاصة المعروفة وتصوراته عن الله وكفره بالمسيحية على النحو الذي وصل اليه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، ختمها المفكر الفرنسي حديثاً ميشال فوكو بموت الانسان، ثم أطبقت التكنولوجيا الأمريكية بمسح المدن بالسلاح الذري، وأصبح الجنس البشري قاطبة مهدداً عملياً بالفناء. وبذا مشى الفكر الغربي بقرنين (نظري) إلى العدمية و (عملي) إلى التهديد بالفناء الفعلي للبشرية، وفي النهاية فإن تطور تكنولوجيا السلاح هو ليس تطوراً علمياً بل هو اتجاه الفلسفة العدمية.

لنسمع إلى طرف من الاختناق الفكري على لسان برتراند راسل في كتابه لماذا أنا لست مسيحياً؟  في فصل عبادة الرجل الحر: (لإن يكون الإنسان نتاج أسباب لاتملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات، ولإن يكون منشؤه ونموه وآماله ومخاوفه وصبواته ومعتقداته مجرد حصيلة ارتصاف ذرات عرضي..

ولأن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولة أو أي حدة في التفكير أو الشعور عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولإن يكون الاندثار هو المصير المحتم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الإنسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقاً غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يستحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء، وعلى ذلك لايمكن بناء موطن الروح في أمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم).

هذه الكلمات ذكرها مؤلفان يشتغلان بفلسفة العلوم هما روبرت آغروس، وجون ستانسيو في كتابهما (العلم في منظوره الجديد)  وهو مترجم عن كتاب عنوانه (القصة الجديدة للعلم).

ذكر المؤلفان هذه الفقرة بشيء من الحسرة،  باعتبار أن نبضات الكلمات كلها تشير إلى فلسفة العدم الذي يرى الكون يقوم بالصدفة (حصيلة ارتصاف ذرات عرضي)، لينتهي بالعدم والعبثية (تعجز عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر).. وبرتراند راسل يعتبر في الفكر الغربي المعاصر ذو وزن لايستهان به،  ولذا فهو يعبر عن روح الحضارة الغربية وفلسفتها التي تسيرها، والتي ترى الكون في صورة (الصدفة والعبث).

إن حاجة العلم والعالم اليوم ملحة إلى فلسفة جديدة تولد روحاً جديدة. القرآن يرى الكون يقوم بالحق وعلى الحق، والخلق بالتالي ليس عبثاً. (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثلً وأنكم إلينا لاترجعون) فالكون له بداية، كما أن له نهاية، ووفق برنامج مرسوم. (وما خلقنا السماء والأرض ومابينهما باطلاً) (ص 27) (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) (الحجر 85)؛ لذا فإن ماوصل إليه برتراند راسل هو ماناقشه القرآن مع انسان المجتمع العربي القديم، والذي أطلق عليه مصطلح (الجاهلية) حيث يأتي العربي القديم فيقول للرسول – ص – بعد أن يأخذ عظماً يضغطه بيده ليتحول إلى تراب، فيقول أربك يعيد هذا بعد مارمَّ؟. تنزل آيات من القرآن الكريم للتعامل مع هذه العقلية العدمية العبثية، وتعالج الحجة أو المظهر المادي لعظم يستحيل إلى تراب. (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ؟) (يس 78).

كانت فكرة البعث والتي هي في صميمها تعالج البرنامج الكوني، أي استقرار الكون بموجب هدف محكم، وبالتالي اكتمال صورة الوجود من خلال دورة الطبيعة الكاملة. (كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) (سورة الأنبياء 104).

كان التعجب يأخذ من المشركين أيما مأخذ، كما فعل مع برتراند راسل هل سيكون هناك خلق جديد بعد الاستحالة إلى الرفات؟. (ائذا كنا عظاماً ورفاتاً ائنا لمبعوثون خلقاً جديداً) (سورة الاسراء 49) كان القرآن يحيل المظهر إلى جوهر المشكلة وهي ليست (عناصر الكالسيوم والصوديوم والفوسفور والحديد = التراب).

(قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) (سورة الاسراء 50) فهذا هو جوهر المشكلة أي فساد التصور، أي الفلسفة أو نظام المعرفة (الابستمولوجيا) الذي يكوِّن هذه العقلية، ولذا فإن العمل الذي نقوم فيه لجعل المعرفة إيمانا له مايبرره، حيث أن أسلمة العلوم أو المعرفة هو ليس أكثر من رد الشيء إلى الحيز الذي يجب أن يكون فيه حتى يؤدي بالتالي وظيفته على الوجه الأمثل. وعقلية الشاعر العربي قديماً طرفة بن العبد لاتختلف كثيراً عن عقلية الفيلسوف البريطاني في هذه النقطة، فلقد حفظت لنا المعلقات الشعرية أبياتاً من الشعر جميلة البناء خاوية الهدف:

أرى قبر نحـَّام بخيـلٍ بمالـــــــه        كقبر غَوُّي في البطالة مفسد

ترى جثوتين من تراب عليهما        صفائح صم من صفيح منضد

لعمرك ماأخطأ المـوت الفتــــــى         لكالطول المرخى وثنياه باليد

فهو يرى القبور تسوي بين الناس جميعاً، فيلفهم (الاندثار) كما عبر برتراند راسل من أن هذا هو المصير المحتوم لكل عبقرية الإنسان. ولكن ماذا تقول كلمات العلم الجديد؟.

إن هناك من سبقني إلى الاستشهاد بقول برتراند راسل على اعتبار أنها من مخلفات فكر القرن التاسع عشر الميلادي، ذلك أن الحضارة الغربية تواجه تحدياً خطيراً، بل إن الحضارة الإنسانية هي في حالة تحول وانقلابٍ اليوم؟! . جاء في كتاب العلم في منظوره الجديد (ص 15):

(والحضارة الغربية مابرحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم التجريبي. بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين، الأمر  الذي يفضي إلى وجود نظرتين علميتين متنافستين).

وهذا التحدي يأتي من أن العالم مقبل على تصور كوني جديد لذا فإن صاحبي الكتاب المذكور عرَّفا هذا التصور للحضارة على الشكل التالي:

(لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقاً لها كل شيء ويقيَّم، والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها،  ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث لاندرك أن لدينا تصوراً ما إلا حين نواجه تصوراً بديلاً، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول) ص 15.

إننا نرى في هذا السياق الفكري المكثف فلسفة العلم، فإذا ربطنا بين الفقرتين السابقتين نرى بوضوح أن العالم مقبل على تصور جديد، وهو يودع التصور القديم، وهنا في نقطة التمفصل هذه يجب أن يكون لنا دوراً فيه، وهو قادم بإذن الله.

https://anbaaexpress.ma/jkrl9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى