ليست الفلسفة وحدها، فالحكمة حين يستعملها ابن النهضة الغربية نفسه، فهي زبدة المعرفة، فلنقل إنّ الفلسفة مذ كفّت أن تكون حكمة وهي تفقد مناعتها ضدّ الوقاحة. لنتذكر إيراسموس دي روتردام في مدح الحماقة، حين يعلنها صراحة: (La sagesse, au contraire, rend timide).
أجل، الحكمة تجعل الإنسان خجولا، وهذا مؤشّر على ثقل القلق الذي يحمله الحكيم تجاه المعرفة والوجود.
فرق كبير بين أن ينمو ذهنك في حشد داخل الآغورا، وأن ينمو في حشد من “الحلقة”، فهذا ما يجعل الفلسفة نفسها حين تسكن ذهنا “حلقويّا” تصبح: (philosophie en réclame)، وهي كبضاعة في سوق التخفيض، وبكل المقاسات، ويرافقها العويل، وغالبا ما تختلط بالدعاية نفسها لأردء السلع، وهكذا حين ننزل إلى سوق التخفيض، تختلط الأصوات، وتتقلّص المسافة بين دواء الفلسفة ودواء البرغوث.
لا أوقح من جعل الفلسفة مجالا للحسم في المعرفة والوجود، فهي كطريقة متقدّمة في التفكير، تساعد الفكر على اختراق البنيات العميقة للبداهات التي تكرسها التعاقلات المتراكمة، والتي يجعل منها تاريخ الأفكار يقينيات كُبرى. إنّ فنّ التِّسْآل هو جوهر الفلسفة، لأنّها بهذا المعنى تفتح أفقا أمام تبلّد أحاسيسنا تجاه الوجود.
إن الفلسفة وإن كانت صناعة للمفاهيم كما عند جيل دولوز وفيليكس غاتاري، وهذا تحصيل حاصل في تعريفها، لأنّها تتأطّر بالقاطيقورياس، فهي أبعد مدى من المفاهيم، لأنّها هي من يدير لعبة المفاهيم، وهي من تمنح المفهوم شهادة ميلاد أو شهادة وفاة، وهي أحيانا من يلعب بين تخوم المفاهيم.
ولكننا حين نصبح أمام تمثّلات من نفايات القاطيقورياس، وتدخين أعقاب المفاهيم، حين تصبح الفلسفة وقاحة بالمفاهيم، وجب على الفيلسوف أن يكسر حاجة الخجل ويساهم في الدفاع عن آخر قلاع المعنى، وإلاّ انهار العمران البشري وما تبقّى من رفات العقل.