أطلقت إيران صواريخها ضدّ إسرائيل، ليل الثلاثاء، بعد اندلاع جدل داخلي، كثيره كان مكتوماً. أفرجت التصريحات العلنية عن تراشق في المواقف، منها ما حمّل الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان مسؤولية ضعف موقف إيران بسبب “تعطيله” قرار الردّ على مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة.
راحت منابر محافظة متشدّدة تعتبر أنّ عدم الردّ يقف وراء قيام إسرائيل باغتيال أمين عام الحزب حسن نصر الله.
اضطرّ أنصار الرئيس أن يذكّروا بأنّ قرار الحرب والسلم وقيادة القوّات المسلّحة في يد المرشد علي خامنئي، بما يعني أنّ قرار الردّ من عدمه عنده فقط.
اضطرّت إيران، أخيراً، إلى تنفيذ ردّ ينتقم لمصاب ثلاثي. هنيّة في طهران ونصرالله وضابط الحرس الثوري عباس نيلفوروشان في الضاحية. واضطرّت إلى اللجوء إلى الردّ المتأخّر في سعيٍ للتخفيف من حنق وغضب تسرّبا من تعبيرات بيئة الحزب في لبنان ومنابر “المحور” في المنطقة. ومع ذلك فإنّ في طبيعة هذا الردّ وتوقيته الليلي وما يوفّره من عرض مبهر، وفي محدودية الخسائر التي أحدثها، وفي خلفيّات تنسيقه مع واشنطن على الرغم من النفي المنتظر من طهران، ما لا يخرج عن خطّ استراتيجي عامّ يرعاه المرشد وينتهجه الرئيس وحكومته في طيّ حقبة والسعي لطرق أبواب التفاوض والتلويح بالورقة النووية مدخلاً لذلك.
يطيب لطهران أن تحذّر التقارير الإسرائيلية والدولية من قرب إيران من صناعة قنبلة نووية. لكنّ مراجع إسرائيلية أشارت إلى أنّ ما يؤخّر القلق النووي الكبير هو أنّ إيران لا تملك الصواريخ التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية تزوّدها بقدرات نووية عسكرية مدمّرة. عجّلت إيران في 12 أيلول الماضي في إطلاق قمرها الاصطناعي الثاني هذا العام بعد ذلك الأوّل الذي أطلقته في كانون الثاني. بدا أنّ إيران تبلغ العالم بأنّها تملك تلك الصواريخ وتستعرض ما يمكن أن يعجّل بالعودة إلى التفاوض.
التّحاور مع الأعداء
في 27 آب الماضي، قال خامنئي: “لا يوجد عائق” للتحاور مع الأعداء. عُدَّت تصريحاته الحالية تتطابق مع تصريحاته السابقة وقت الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. وفي 24 أيلول الماضي، أطلّ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من نيويورك معرباً عن استعداد بلاده للحديث مع أطراف الاتفاق النووي، والتفاوض بشأن قضايا أخرى في حال الوفاء بالالتزامات ووجود حسن نيّة. وبدا مناشداً في القول: “آمل أن يُسمَع هذا الصوت القادم من إيران اليوم بصورة صحيحة”.
في اليوم نفسه، وفي نيويورك أيضاً، أجرى رافائيل غروسي، المدير العامّ للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محادثات مع عراقجي. وقال بعدها إنّه شعر برغبة أكبر من جانب المسؤولين الإيرانيين في التعاون مع الوكالة بجدّية أكبر، مضيفاً أنّه يأمل زيارة طهران خلال تشرين الأول. وإذا ما كانت طهران تسترضي الوكالة الدولية وتعوّل على فوز كامالا هاريس في الولايات المتحدة، فإنّها ليست قلقة من خيارات منافسها دونالد ترامب.
كان ترامب قد أعرب في 16 آب الماضي، وعلى الرغم ممّا يطلقه من اتهامات لإيران بمحاولة اغتياله، عن رغبته في إقامة علاقات صداقة مع إيران في حال فوزه. قال: “لا أريد أن تكون لدينا علاقات سيّئة مع إيران. وآمل أن تكون لنا علاقات صداقة معها”، مضيفاً أنّ ذلك “يمكن أن يحدث، ويمكن ألّا يحدث”. وأضاف أنّ إيران “لا يمكن أن تمتلك أسلحة نووية” كشرط لإقامة علاقات جيّدة مع الولايات المتحدة.
إيران النّوويّة
لكن ما الذي تمتلكه إيران في ورقتها النووية التي تقلق العالم؟
يتحدّث خبراء عن امتلاك إيران لنقاط قوّة جديدة تجعل موقفها أفضل في أيّ مفاوضات نووية جديدة مقارنة بتلك التي كانت لديها في مفاوضات الاتفاق النووي التي بدأت عام 2013. أتاح انسحاب ترامب من الاتفاق عام 2018 إطلاق يدها. باتت إيران تمتلك حالياً 165 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60 في المئة، ومقداراً آخر من المخصّب بنسبة 20 في المئة، وثالثاً مخصّباً بنسبة 5 في المئة.
كان الاتفاق لا يسمح لإيران بتجاوز نسبة 3.67 في المئة فقط. ارتكب ترامب “عبقريّة” أتاحت لإيران تجاوز العتبة النووية الكبرى. كانت وكالة غروسي كشفت العام الماضي عن وجود آثار تخصيب لليورانيوم وصلت إلى نسبة 83.7 في المئة في منشأة فوردو. والرقم مرعب إذا ما عرفنا أنّ صناعة قنبلة نووية تحتاج إلى تخصيب بنسبة 90 في المئة. اعتبر غروسي، بناء على ذلك، أنّ إيران تستطيع صنع السلاح النووي “حتی وإن كانت لا تسير بهذا الاتجاه راهناً”.
تدرك طهران أن لا وقت للإدارة الحالية، عشيّة الانتخابات الرئاسية، لاستئناف المفاوضات الإيرانية، وأنّ الأمر مناط بالإدارة المقبلة بعد كانون الثاني 2025. حتى ذلك الحين ستراكم إيران استعراض مفاتنها النووية كورقة أصلية وتسقط أوراق الدنيا الفرعية خدمة لذلك حتى لو تطلّب الأمر إفتاء المرشد بـ “التراجع التكتيكي”، ولا يخرج الردّ الإيراني على إسرائيل عن هذا النهج.
أرادت إيران تنفيذ الردّ ضدّ إسرائيل وسارعت إلى الإعلان عن انتهائه لتعود إلى سكّة النهج الجديد. لطهران وطاقمها الحاكم حسابات بيتيّة أملت “الاستثناء” الذي لن يربك القاعدة. وقد لا يكون غريباً أن يجري هضم الردّ الإسرائيلي الذي ستتمّ هندسته بإخراج أميركي منضبط لا يؤدّي إلى شطط. وحتى لو ارتجلت طهران سلوكاً تفرضه يوميّات حروب نتنياهو، فإنّ إيران باتت تتفيّأ في ظلال برنامجها النووي عارضة التسوية التاريخية الكبرى. لن يقلب الطاولة إلا ضرب إسرائيلي موسّع للمفاعلات، وهو أمر ما زال ممنوعاً قد تحرّمه لاءات كبرى في واشنطن والعالم.