آراءثقافةمجتمع

الاجتهاد والتجديد: في فهم الدين وفلسفة الأحكام (3)

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات (2)

جدل الدين والتديّن.. أي جدل هذا؟

يحضر الدين دائما وفي كل الحقب التّاريخية وبكيفيات مختلفة كخطاب وكممارسة، وأيضا يحضر كهاجس وحساسية، هل نتحدّث يا ترى عن ظاهرة؟

إنّ تمظهر الأشياء كظاهرات يفرض وجود مسافة بين الذّات والموضوع، شيئ ما حضر بعد أن لم يكن، شيء ما سقط سهوا ثم تضخّم كظاهرة ماثلة هناك، لكن هل كان الدّين شيئا ما هناك؟

كان الدين دائما حاضرا، يمكننا الحديث عن حساسيات وعن إشكالية فهم وفهم مضاد، عن شيء يصعب من النّاحية الإبستيمولوجيا مقاربته كشيء هناك، لأنّ الدين يفرض خبرة، معايشة، لكي نفهمه، وهناك من ينطلق من هذه الخبرة، لكنها خبرة ما، خطاب ما.

تفرض دراسة الدين كظاهرة شكلا من الغرابة: كيف ننظر إلى أنفسنا كظاهرة، وحينئذ سنتساءل: نحن ظاهرة إزاء من؟ تبدأ إشكالية الموضوعية منذ الوهلة الأولى، وهذا تساؤل يفرض نفسه على المهتم بقضية الفهم الدّيني.

وهنا أحبّ القول بأنّه وبسبب هذا الحضور كما في التراثات التي تحفظ لنا سائر الأديان، انبثقت علوم واختصاصات معرفية تعطينا صورة عن كثافة هذا الحضور وتمأسسه: شريعة، علم كلام، أصول، تفسير، آداب، رقائق، حكمة، دراية الخ، هذا بينما لا زال الدين يفرض على الحداثة حقولا معرفية: فلسفة الدّين، علم الأديان، سوسيولوجيا الدين، أنثروبولوجيا الدين، هيرمينوتيقا الدين، الجغرافيا الدينية الخ..

وخلال عقود من التنوير والحداثة وما بعدها في أوروبا حضر الدّين في النّقاش والمباني والأفكار مديحا وهجاء: عند ديكارت، سبينوزا، جون جاك روسو، كانط، هيغل، ليبنتز، فرويد، نيتشه، ماكس ويبر، إدغار موران، رجيس دوبريه الخ، إنّ موضوعا حاضرا كهذا بإلحاح وبهذا المستوى يفرض مقاربة استثنائية.

إنّ طبيعة الحضور الديني في حياة أهل الأديان، تختلف من حيث الحيوية والنّشاط، ما يفعله الدين في الحياة الخاصة والعامّة لا حدود له، وسننصت إلى عبارة لشلايرماخر تلخّص ذلك كما هو واضح في الواقع، حين يعتبر أنّ الروح التي يسكنها الدين، تكون أكثر نشاطا وحيوية باستمرار.

هناك حيث الدين يجعل من سائر الأشياء غرضا لنفسه ومحولا كل فكرة أو فعل إلى موضوع لخياله السماوي. بتعبير آخر أكثر اختصارا يلخّص فكرة شلايرماخر، هو أنّ الدين في خبرة الفرد والجماعة، يحتوي الفكرة والفعل، وسوف يساعدنا هذا على تحديد المسافة الحقيقية بين الدين والتدين، وبالتالي طبيعة تشكّل الخطاب الدّيني، فنتساءل: هل المسافة تنكمش أم تزداد بين الدين والتدين بقدر ما نتديّن أم بقدر ما نأخذ المسافة؟ بتعبير آخر: هل ندرك الدّين أكثر حينما نتديّن أم حين نأخذ مسافة ونرصد حركته؟ ولكن ماذا بالنسبة للحركة الداخلية للدين أو تأثيره المباشر في النفس والمجتمع؟

في كل ما سنتناوله في هذه المُقاربة، سنقف على المسافة الفاصلة بين الدين والتدين، باعتبار أنّ الحديث عن الدين كما لو كان بُلغة مستحيلة إنّما هو أيضا إشكالية في حدّ ذاتها، ذلك لأنّ ما لا يستطيع أن يناله المتديّن من الدين هو حقائق اللّوح المحفوظ وما ليس من شأنيته، لكنه مسؤول -(وقفوهم إنهم مسؤولون)-، مسؤول في التدبير، بما فيه تدبير الفهم، هنا وقبل أن نباشر قصّة الفهم الدّيني يصبح الفهم مسؤولية المُتلقّي، أمّا المخاطب – بكسر الطاء- فهو مسؤول في مقام تحدده قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقبح التكليف بما لا يطاق، من قواعد المدرسة العقلانية والعدلية في الإسلام، الفصام الأبدي بين الدين والتدين ستنشأ عنه معارك التأويل واندحار المعنى واستحالة الفهم.

 ينشأ الخطاب من خبرة دينية أي ما يستدعيه متلقّي من الدين، وهنا سنكون أمام خطابات وأفهام وسُبل، ولكن أين يوجد الصراط المستقيم؟ لن أتحدّث عن صراطات كما يذهب عبد الكريم سروش في تبسيط مُهلك للدين والتديّن، فكما في الرياضيات، يصعب علينا الحديث عن صراطات مستقيمة، كذلك في مسالك التّديّن، سنتحدث فقط عن عناصر تمثل قاعدة مشتركة بين مختلف أنواع الخطاب، هذا إذا اعتبرنا حقّا أنّ الخطاب هو صناعة لسياقات، فالسياقات ليست هي الصراطات المستقيمة، بل هي بيئة وشروط قيام الخطاب وانطلاق الفعل التّديّني.

أين يكمن الفارق بين الدين والتدين؟ إنه الفرق نفسه بين كل خطاب وفهمه، فالمسألة ليست استثناء، والخطاب الدّيني التأسيسي طرح كإطار للانطلاق، وهناك داخل هذا الإطار انطلاقات مختلفة.

إنّ المسؤول عن ابتعاد التدين عن الدين هو جملة عناصر، منها المتلقّي وما يستدعيه من معنى، منها السياقات التي تفرض شروطها على المعنى، هناك السياسات- ولأنها تفهم خطورة الحضور الديني – وأساليب ضبط التّديّنات ومأسستها، (= الدين كسياسة عمومية) وليست العلمانية في نهاية المطاف إلاّ شكل من بين أشكال أخرى لتدبير الخطاب والفهم الديني في المجتمع. في الخطاب العلماني، وربما قدر العلمانية دائما، أنّها تذكّر وباستمرار بالحضور الديني الذي تقارعه تارة بأدواة القطيعة وتارة بأدوات التنظيم، إنها تحمل هذا الهاجس وتسعى لتدبير هذا الحضور، وستظلّ هذه الجدلية حاضرة ولكن لا بدّ من منعطف، غير أنّ العلمانية نفسها لها أكثر من مستوى على صعيد الموقف والرؤية والحساسية، فللفرنسيين تعقيد آخر في تفاصيل الإدارة العلمانية للشأن الروحي..

شاع في السنوات الأخيرة تداول هذا التمييز بين الدين والتدين، ككل العبارات التي تنزل إلى سوق الاستهلاك من دون أن نضع لها سياقات، لئن كان هذا الفارق واضحا لنا فما السبيل إلى إحراز الفهم الذي يجعل التدين يعانق الدين الحق؟ أي معنى للدّين الحقّ؟ هل يعني أنّنا حين نميز بينهما نكون على فهم بالدين من منطلق أنّ الحكم على الشيء – والتمييز حكم – هو فرع لثبوت المثبت له؟

لدينا أوهام مؤسسة للتّديّن أي كيفية تمثّل الخطاب الديني في مقام الممارسة، قسم منها يعني عدم الإنضباط وهذا يوضع في خانة المروق، الفسوق، النّفاق: (لم تقولون ما لا تفعلون)، غير أنه من الواضح أنه ليس هذا هو المقصود في التفرقة بين الدين والتدين في هذه الفدلكة، فالمقصود هنا هو أنّ التدين يقوم على خطاب لا يمثل الدين الحقّ، المسافة بين حقيقة الدين وحقيقة الممارسة، ثمة إذن موقفان مختلفان: سوف يجد المتدين فسحة لتمييز سلوكه عن الدين، ليبقى هذا الأخير في مقام من التعالي، بينما سيعتبر البعض في هذا مدخلا لقراءة العلاقة خارج تأثير الخطاب، الدين متعالي والتديّن متداني.

إنّ الإلتفاف على النّص حدث تاريخي قديم، التحريفية لازمة لكل النّحل، وفي الغالب يطغى التديّن بالوهم، وكأنّ تاريخ الأديان هو تاريخ انحراف التديّن، هناك تدين بالأوهام كلما تعلق الأمر بالدّاخل وليس بالموقف التبشيري من الآخر كما ذهب كيركيغارد، الوهم الذي ينتج عن تدبير دنياوي للدين، ليس بين أيدينا الدين الحقيقي بقدر ما بين أيدينا وهم التّديّن وفق هذا القراءة الثورية للدين التي تجعل من فعل تنظيمه تحريفا.

وتظلّ المسألة الأساسية هنا هي أنّ المعرفة الدينية هي في الأصل خبرة شعورية، ما يجعل التدين خبرة وليس حصيلة تعلّم، أعني هنا ما ذهب إليه شلايرماخر من أنّه من السخف اعتبار التقوى موضوعا للتعلّم، وقبل قرون تأكد ذلك في الخطاب الإسلامي: (اتقوا الله، ويعلمكم الله)، التقوى هنا سابقة، الخبرة الشعورية، الإشراق، ثم يأتي البرهان والبيان.

ما أريد أن أخلص إليه في هذا المطلب هو أنّ الأثر الديني يفرض شموليته ما دام هو موصولا بسائر أبعاد الإنسان، هذا يفرض مستوى من التعقيد، علينا أن ننظر إلى الموضوع في تعقّده في الواقع الفردي والجماعي، وهنا ستواجهنا إشكالية الزاوية التي سننظر من خلالها لقضية فهم الدّين؟ للمنهج؟ لطريقة إدارتنا للمفاهيم؟

ستنتقل الإشكالية إلى من سيدرس الدين كخطاب وكممارسة أيضا، أي كتديّن، كظاهرة سوسيولوجية، إلى من سيضع موازين الإصلاح الدّيني وتجديده، إشكالية الرّائي والمرئي والأدوات المعرفية وأساليب تدبيرها، هذا الذي يجعلنا نتثبّت في مقاربتنا للدّين من حيث تعدد زوايا النظر وتراتبية النظر واستيعاب مقومات الخطاب وهضم قرون من التخاطب وتراث من المعنى، الشيء الذي يفرض علينا استيعابا للحظتنا السكولاستيكية الضّائعة: كيف أخفقنا في تمثّلها، وستحاول دائما مقاربتنا الوقوف وقفة نقديّة مع مجمل المحاولات التي تحوم حول إشكالية الفهم الدّيني وتحليل ظاهرة التّطرّفات..

https://anbaaexpress.ma/lc0t5

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي ، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى