آراءثقافة

الاجتهاد والتجديد.. في الفهم الديني وفلسفة الأحكام(4)

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات(3)

ليس متاحا كسر البنية السلفية للفهم الدّيني من خلال إجراءات سطحية غالبا ما تكون غير مقنعة، الحديث عن العقلانية وحدها لا يكفي كما سنرى، نحن في منعطف تاريخي يقتضي النظر إلى العقلانية وفق تصنيف تاريخي: عقلانية ما قبل الثورات العلمية والفلسفية وعقلانية قلقة في طور البحث عن موقعها في حدود العقل، سنجد أنفسنا أمام الرغبة نفسها للتمييز بين العقل والتّعقل كما تقبلنا التمييز بين الدين والتديّن، أليس هذا هو العدل؟

نحن هنا ندرس خطابا، وهذا يفرض تعقيدا حقيقيا على المُقاربة لسبب بسيط وهو أنّ الواقع بالغ الخطورة أكثر مما نتوقّع، وكما سبق ذكره، فإنّ التّطرف غريزة تنتج خطابا، وأنّ التطرّف هو طريقة همجية في تدبير الموقف من الآخر، وعلينا أن ندرك أيضا بأنّ العلمانية حملت همّا وهاجسا لهذه العلاقة، لن ينتهي الدين طالما توجد هناك علمانية، لأنّها تذكّر به وتحيّن هواجسها تجاهه وأحيانا تتمثّل مواقف أصولية تشبه ما يعرض على الأديان نفسها، فالدين يظلّ في الأطروحة ونقيضها: (لكم دينكم ولي دين)، نتحدّث بالجملة عن شيء سمّاه شريعتي:دين ضدّ الدّين، نتحدث على طريقة كيركيغارد عن الوهم الذي ينتج عن هذا التدبير، عن شيء كما نحى غوشيه يشبه دين الخروج من الدّين، أو ما سماه بالصيغة اللاّهوتية-السياسية للديمقراطية -نفسها -الشيء الذي يمنح “تفوقا” للمؤسسة ولكنه كما يستحضر غوشيه إعلان البابا عام 1906 وقبله بورتاليس عام 1801 دفاعا عن الاتفاقية البابوية، حول الخلاص الفردي، فصل الدولة عن الدين.

هنا أحب أن أقف عند المعنى الذي نحى إليه غوشيه بخصول تلخيص الحكاية في كون الله منفصلا ولا يتدخل في السياسة للبشر، ألم يكن لدينا المفوّضة؟ ولست هنا في وارد اختزالها في المعتزلة، فلقد جسدوا أكثر من خطاب وأكثر من طبقة وما نسب لهم من شاذّ ناذر هو من قبل خصومهم، نحن لا زلنا ندفع ثمن التطرفات في قراءة الآخر، قراءة فرضها علينا المقرر الفلسفي لأقسام الباكالوريا، الذي وضعه السطاتي والجابري، والذي عبّر في أكثر من مورد في نقد العقل العربي، عن أنّه ينطلق من مصادر محدّدة، مكرّسا الفصام والشرخ والقطيعة، ليس بين القديم والحديث، بل بين القديم والقديم: تحيين لمعارك التأويل، في مفارقة سنمرّ عليها: الدعوة إلى القطيعة مع الشرق ولكن تبنّي كل مواقف الشّرق ضدّ الفرق الكلامية ووصفها بالمروق، في قسم الفكر الإسلامي الذي ينضح بأخطاء كبيرة وتمثّل مواقف سابقة في كتابات كتاب الفرق الحدثاء من المشرق، حيث تشكّل جيل كامل على هذه البضاعة ليس له عنها حولا، أجل، ليس هذا موضوعنا، ولكننا سنتحدث عن أنّنا هنا إزاء ما نسب للمفوّضة، وهو قديم في تراثنا، سنباشر هذا الأمر في مقطع الإرادة والجبر لأنهما أمران في حاجة إلى مزيد من النظر والتحليل(انظر باب علم الكلام من كتابي: محنة التراث الآخر وانظر الفصل الثاني حول النسق الكلامي من كتابي: المعرفة والاعتقاد).

يذكّرني هذا في الخلاصة التي انتهى إليها رفاعة الطهطاوي بعد زيارته للديار الباريسية من أنّ القوم على مذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، ولكنه لو تأمّل الأمر بشكل آخر، لقال عنهم أنهم أصبحوا على مذهب المعتزلة في التفويض.

وهذا النّقاش لا يتعلق بالنجاة الفردية بل بالشأن العام والسياسة العمومية وكل ما له علاقة هنا، وفي كل الأحوال فإنّ مضمون فكرة دين الخروج من الدين تعزز فكرة استمرار الدين بكيفية أخرى في الحياة العامّة على أساس التفويض المطلق، هو إذن تفصيل في صلب الويبيرية، نزع السحر عن العالم ولكن إقحام الدين في الإنتاج.

يتنزّل الدين في الحياة الجماعية، يصبح مجالا لتقاسم المعنى والأحاسيس، يصبح شأنا جماعيا، يكفّ أن يكون مجرد خطاب تأسيسي يحيلنا إلى أسباب نزول أولى ليصبح خطابا يستنزل المعنى ويستأنفه، يصبح خطاب تجاوز للمورد الأوّل بحثا عن مورد بديل وفي الغالب تحصل هاهنا معارك التّأويل التي يرتهن إليها الخطاب والمعنيون بالخطاب، وفي تاريخ الأديان كلها يوجد منسوب من معارك التأويل، كل شيء لمّا يصبح شأنا للجماعة يكون معرّضا لتشظّي المعنى، لا عاصم من انفراط المعنى حين تترك الجماعة لأهوائها، ثمّة ميل لتكييف الخطاب مع الغريزة، الغريزة هي المحرّك الحقيقي للتّاريخ.

في دراسة ما يسمّى بالظّاهرة الدينية من جهة الخطاب أو كظاهرة سوسيولوجية نواجه إشكالية المنظور والمنهج كما أشرنا آنفا، وهذا كما ذكرنا أيضا سينقل الإشكال إلى الذّات الدّارسة كيف تدرس موضوعها، ففي سياق التّطرّفات المُعاصرة نواجه زخما من الفوضى في المقاربات، سنجد أوهاما لا تقلّ عن أنواع الزّيف الذي يتهدد بعض مستويات الخطاب الدّيني نفسه، ليس كل مقاربة للظاهرة السوسيو-دينية هي ناجعة من النّاحية المعرفية والمنهجية، لأنّ عوامل الزيف نفسها تصنع كهنة للتحليل الدّيني يستمدّون معاييرهم من سلطة النّفيّ.

نعم تستطيع أن تختلف وتنفي في نفسك فكرة وتكفر بها لكنها ستظل وستتقاسم الوجود معك وستراها في كل مكان وفي كل اتجاه، فما العمل؟

https://anbaaexpress.ma/dul7s

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى