آراءثقافةمجتمع

الإجتهاد والتجديد: في فهم الدين وفلسفة الأحكام (1)

أصول الفقه ومقاصد الفتوى

تقديم

مع سيادة الجهل والتجهيل، في مجال التفكير الديني تمثلا ونقدا، فهما وإفتاء وتنظيرا، ومع بروز ظاهرة الخبراء والعلماء المزيفين، ومع طغيان التبسيط في تدبير هذا الفهم، سواء من أهل الدين أو من خصومه، ومع تنامي الموضوعات المغشوشة، وهشاشة أدوات التحليل النظري، والعدوى التي انتابت الدعاة أو خصومهم، في الرهان على بسائط القضايا وشواغل العوام ومزاعم الطغام، كان لا بد من تقديم سلسلة تعنى بتجديد وفهم الدين وقضايا الاجتهاد وفلسفة الأحكام، في سياق مشروع دشناه قبل ثلاثين عاما ونيف، ووثقناه تباعا لمن يريد أن يعتبر، تارة تحت عنوان: جهاد المعرفة وتارة تحت عنوان التبني الحضاري والتجديد الجذري. وقد رأينا  أهمية استئنافه بعد أن ظهرت الحاجة إليه، وذلك بهدف رفع الإيقاع العلمي، لتحرير القول في لاهوت المعرفة وروح الشرائع من مستوى الخطاب الشعبوية إلى مداركه العلمية.

وهذه السلسلة، ستعنى بكل القضايا ذات الصلة، والتي لها علاقة بقضايا الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي، ذلك الفكر الذي توقف زمن التجديد فيه، وولغ فيه أغيلمة خفافا، وتعاطاه خنفشاريون ثقالا، بعد هيمنة خطاب السياسوية والديماغوحية والتبسيط، في سياق ظل محكوما بغياب العلماء الحقيقيين وانزواء المثقف المندمج اندماج وفيا لاسئلة النهضة، وهو ما فتح المجال للفوضى، وجعل النقاش ينحدر إلى مستوى الشعبوية نزولا فاحشا.

شغلتنا هذه الحكاية قبل عقود، لم نكن نرى فيها نوابت توزع مزاعم تحت أعيننا كما نرى اليوم، حيث فاض كأس التفاهة في النظر والعمل، فكان نقدنا منذ عشرات السنين يقضي بالعمل على التحريض على سؤال النهضة لا السياسوية، التي كنا ندرك انسداداتها، كما اهتممنا بسؤال الأمة يوم كان الأغيار يهتمون بسؤال الجماعة. وفي كل المحطات، كبرنا بسؤال النهضة والتنوير والتقدم، فلحق بنا الغرماء في هذا الهم بعد أن وهن منهم العظم، ودخلوا المرحلة الاستدراكية، وبدؤوا في ترقيع مسار مزركش فجدوا له مخرجا في ” المراجعات” أو ركبوا أمواجا من الخطاب، كثر فيه عثارهم، وفاضت به نقائضهم، لأنه خطاب منقول غير مؤصل، “ملطوش” من السوق السوداء، لا من منابعه الحقيقية، “كاملوط” فكري كما وصفناه سابقا.

هذه السلسلة لا تخاطب العوام، بل هي تخاطب النخب المعنية بتدبير الفهم الديني وفلسفته، تخاطب العقول لا العواطف، كما أنها لا تستغل جهل العوام لتمرير أحكام إنشائية حول معضلة تقتضي نقاشا عالما، بآلياته ومفاهيمه ولغته الصناعية.

 سنتناول هنا قضايا الإصلاح والتجديد والنهضة وفلسفة الدين وفهمه وتدبير الاجتهاد والفتوى في المجال الشرعي وقضايا المقاصد وما آلت اليه من سوء استعمال ومغالطات، وقضايا الحداثة والتنوير والتسامح والهوية والتطرفات وحوار الحضارات والتنمية، ومناقشة مفاهيم نبتت في سياق النكوص والتخلف. الغرض تعزيز الوعي العام، وإنقاذ المتلقي من أشكال الوعي المغشوش والنصب والاحتيال والشعوذة الايديولوجية في مجال الخطاب، والعودة بالنقاش الإصلاحي إلى بيئته العلمية وطاولته المستديرة بين أهل الخبرة والمعرفة.

ولأنها تستهدف العقل، وتستغل في بيئة كثر ادعياؤها، سنضطر إلى توثيق الاحالات، وتأكيد السبق والتأسيس، والتأريخ للخطاب، لأن عدو الأدعياء هو التأريخ، تاريخ الموقف والفكرة ومصدرها. لكي لا تقع الأمم في الاستحمار الذي تقوم به النخب المزيفة، لا بد من التذكير، ولا بد من التأريخ: من أنتم، متى بدأتم حرفة الاستفكار، ما هي مصادر أفكاركم ، ما هي تفاصيل مشاريعكم..؟، كل هذا لنكون على بينة، وننقذ الأمة من الشعوذة والإدعاء، ونمكنها من التفكير والشجاعة من أجل المعرفة.

جدل فقهي يحتاج إلى فقه: الدوران بين القليل والكثير في الفائدة نموذجا

يبدو أنّ الفتوى كالبرهان تشارطية – لنتذكّر تارسكي- لا أجد خلافا هنا بين بنية الاستدلال الفقهي وبنية الاستدلال المنطقي، وسيكون الخلاف واضحا حين نتجاهل أصل العقل في مجمل أصول التشريع ونكتفي بما يتيحه قياس إبليس من أشكال المكر الفتوائي. ولن أعود إلى ما سبق من تناولنا لأصول التشريع ومشكلاته لأنّ الفتوى هي مجرد نتيجة لأسس إشكالية لن ينهض مع وجودها أي فرصة للعقل أن يكون أصلا وآلية في تدبير الاجتهاد.

لا ينهض فقه عقلاني على أصول غير عقلانية، لأنّ أصولنا كما ذكرت لم تحسم في تشارطيتها المنطقية، فهي استحسانات مزاجية. ولقد نقلتنا المقاصد الماكرة إلى ضرب من الاجتهاد جعل الاستحسان ليس أصلا متأخّرا لا يُصار إليه إلاّ عندما لا تسعفنا الأصول المتقدّمة بل بات الإستحسان هو الأصل المهيمن على سائر الأصول أو بتعبير أصولي هو الأصل الحاكم. بينما عند الفحص سنجد أنّ الاستحسان هنا خدعة غير عاصمة من تسلّط المصالح الغالبة، بتعبير آخر إن الاستحسان هنا لا يقوم على مدرك عقلي حقيقي لأنّ المستحسن برسم الأصول هو هو نفسه المتنكّر للأصل الكلامي القاضي بالتحسين العقلي والذّاتي. وأي معضلة تلك التي يضعنا فيها هذا الخداع. ولذا لا زلت أذكر بالمفارقة إيّاها: الإستحسان في الأصول ليس كالاستحسان في الكلام تماما كما أن القياس في الأصول ليس كالقياس في المنطق، وسأقول هنا بأنّ الاستحسان في المقام هو استحسان إبليس أيضا.

وطبعا لست هنا في وارد النّقاش في مخرجات الاستدلال والتعليل الفتوائي، حيث يأتي حديثي هنا في سياق الجدل الذي أثير على هامش الإفتاء ما بين تحليل أو تحريم القروض التي قدمت في إطار برنامج انطلاقة لدعم المقاولات الصغرى، وهو الذي يمكن شريحة من الشباب من القروض بفوائد صغيرة. وهناك من قال بأنّ الفائدة محرمة وربا قلّت أو كثرت بينما فضّل البعض الإفتاء على أساس أنّ الفائدة في مثال القروض المذكورة صغيرة جدّا وبالتالي لا إشكال في ذلك كما أبرق رئيس الاتحاد العالمي في فتواها التي تنسجم مع لسان فتاوى سابقة للقرضاوي، وهنا لا أريد الخوض في الأبعاد السياسية الحاكمة على الفتوى بقدر ما تهمّني المباني المعتمدة في التعليل.

وأعتقد أنّ الموضوع أعقد من ذلك، سنعود إلى أصل نشأة فكرة الرأسمالية، وقد يكون ذلك إشكال يقع في صلب المقاربة الويبرية لتناقض الإسلام مع الرأسمالية ولكنها تعليلات مرفوضة عند ماكسيم رودانسون مقوضا مزاعم ماكس ويبر بخصوص ما بدا له موقفا إسلاميا داعما للسّحر، هي إذن أنماط في الإنتاج وفي التوزيع، خلاف مستمر: هل المال ينتج المال؟ في النظام الرأسمالي تعتبر كل أنماط المعاملات الرأسمالية جزء من الاستغلال، لم يسمح ماركس للرأسمال ولا صاحبه أن يسطو على القيمة المضافة، الزيادة هنا التي يراد بها الاستغلال، حتى حينما يقبل الإنسان القرض بقيد الفائدة، فهو يكيفها داخل باب الإكراه الواسع، بل يصنفها بالوجدان في صنف عقود الإذعان.

دعني أتساءل هنا – وبين التساؤل والفتوى بون شاسع – فأنا أنظر إلى الحكم كقضية تأتي في المرتبة الثانية، لأنّ العنوان هو الذي يؤطّر الحكم ويحدد وجهته والموضوعات متحركة والشروط ليست متغيرة فحسب بل منقلبة تنتهي بقانون الاستحالة: كالأمعاء التي لا مالية لها وقد أصبحت لها مالية حين استعملت في صناعة الأوتار، كالشطرنج الذي انقلب من آلة لهوية إلى رياضية، كالنجّس الذي صيّرته الدباغة إلى طاهر، فالعناوين مداخل أساسية في عملية الاستنباط، والتعبّد في الاستنباط للموضوع، بل القدسية في الاستنباط للموضوع لأنّ العنوان هو المتغيّر في معادلة الحكم الشرعي –الأحكام تابعة للعناوين- وقبل المضيّ إلى الاستحسان الأصولي والمقاصد الجزافية وجب تحقيق العناوين ورصد الموضوعات.

وكذلك حدث يوم لم يكن أحد من مشايخ السلفية بكل أشكالها يُعنى بتجديد القول في فقه الإنتاج والتوزيع، حاول الشهيد السيد باقر الصدر وهو عالم متسلط في الفتوى وأصول الاجتهاد أن يدفع باتجاه الحلّ الجذري للبنوك الربوية، فسلك وسلكوا مسلك تعديل صيغة العقود والمعاملات لتغيير أصل العناوين وكانت المضاربة بما يحيل موضوعها على صعيد المخاطرة وتقاسم الربح والخسارة إلى جعلها صيغة لتبرير الزيادة. وكان بالإمكان أن يمضي الاجتهاد إلى أقصاه في تدبّر عناوين جديدة أخرى تقلّص موضوع الرّبا.

لم نمنح الموضوع تحقيقا كاملا فسارعنا لإقحام فتاوي متناقضة ورخوة مثل الحلزون، لأنّ المرحلة الأساسية من الاستنباط لم نستوفها. وكنت أعتقد أنّ المسألة يمكن أن تحلّ بصيغة تعاقدية بين البنوك والمستفيدين، وهناك يجب أن تحضر عبقرية المفتين.

أتساءل لا من باب الإفتاء ولكن إحراجا للقائسين من أنصار القياس، كيف يمكن التعامل مع موضوع الزيادة في قروض “مشروع برنامج انطلاقة” في سياق أنماط الإنتاج والتوزيع، وكيف أنّ التعليل يجب أن يرتكز على الزيادة التي يراد منها الاستغلال أو تفرض إذعانا على المستفيدين، وهل ستتحمل البنوك مخاطر الفشل مع المستفيدين؟ أتساءل أيضا: إن كان لا ربا بين الزوجين والأب وابنه –لمقولة: أنت ومالك لأبيك- حيث تفقد الربا موضوعها وينشأ عنوان خاص سواء أتعلّق الأمر بربا البيع أو القرض، أليس وضع الإنسان اليوم في إطار الدولة الحديثة بمختلف توجهاتها بالمعنى البترياركي يفرض هذا النوع من الأبوية بل السلطة التّمامية التي تجعل المعاملة أمرا خاضعا لعنوان جديدة بناء على تحوّلات السلطة في المجتمع والتّاريخ، فيُقال: لا ربا بين الدولة والمواطن؟ أنا فقط أحلّل وأُسائل القائسين.

ودعك من القياس فمداخله ومخارجه خطيرة، لكن تحوّلات مفهوم السلطة وبنيتها وأنماط الإنتاج والتوزيع لا محالة لها مدخلية في تحقيق العناوين والصيرورة إلى أحكام مستجدة، غير أنّني أرى أنّ الإسلام كان مدركا لما تسبب الأنماط التاريخية من ظلم على صعيد الإنتاج والتوزيع وكان يلتف فقهيا على ما أوجبته أنماط الإنتاج التاريخية كما في وضع الرقيق وكما في قضية المرأة حيث جعل السرقة والربا بينها والزوج بلا موضوع، وكان لا شكّ ن المرأة هي الأكثر انتفاعا من هذا الحكم لأنّها لم تكن جزء فاعلا في دورة الإنتاج، ففتح لها الفقه بابا لم ينصفها فيه التاريخ، وذلك باعتبار أنّ الفقه له وظيفة سلبية لا تتجاوز أنماط الإنتاج ولكن تخلق وضعا أمثل في كل نمط إنتاج تاريخي، وفي ما يعرف بفقه التخريجات ما لا حدود له لأنّه يخضع الفتوى لفن تحقيق وتمحيص العناوين.

ونستطيع بتغيير العناوين تحقيق المُراد من دون عنت أو تكلّف، وقد بات من الممكن الاقتراض من البنوك أجنبية كانت أو حكومية محليّة مع الفائدة بعناوين أخرى كالاستنقاذ في حال كونها غير إسلامية أو بعنوان مجهول المالك في حال كونها حكومية في البلاد الإسلامية، وانحصر التحريم الفتوائي فيما لو كانت بنوكا أهلية، هذا هو نهاية الإفتاء.

لم نقرر الفتوى، ولكننا نتحدث عن ممكنات تحرير الفقه من الأساليب الاجتهادية الضعيفة، فالرّبا هي قضية نمط إنتاج، وإن كان هناك مجرد تخريج لها فذلك لأنّ الإسلام بخلاف المسيحية لم يساهم بل لن يساعد على قيام وتعزيز الرأسمالية، فالمشكلة أكبر من الفتوى والفقه بل هي مشكلة تاريخية تتعلّق بالموقف من العدالة والإنتاج والتوزيع ومفهوم المالية والنقد الخ.

مقاومة الربا هي جزء من معركة تاريخية ضدّ سوء التوزيع والظلم الاقتصادي، ومقارعة الرأسمالية هي مقارعة تاريخية، وتغلب نمط الإنتاج الرأسمالي لا يمنح شرعية لتعزيز المعاملة الربوية التي يصعب القضاء عليها في سياق تغلّب هذا النّمط، ولا يمكن لحلول إجرائية أن تحول دون الموقف التّاريخي من الرّبا، فالمدار في الإفتاء كما قلنا هو العناوين: هل هذا ربا أم لا؟ هل الزيادة ربا أم لا؟ هل يوجد عنوان للزيادة يخرجها من التصنيف الرّبوي؟ ذلك لأنّ الربا في روح التشريع الفقهي اقترنت بالاستغلال، وهنا تكمل المشكلة وهنا وجب أن يتحرّك الفقه، لا سيما وأنّ قسما كبيرا من المتشرعة يحتاجون لاقتناع، ولا أحسب أنّ ما سمّي بالبنوك التشاركية تستطيع أن تتجاوز كل هذه المشكلات.

وفي مثل هذه الحالة وحتى لا تفوت مصالح كثيرة للأفراد والحكومات كان لا بدّ من فقه التخريج والعمل على تقليب العناوين الممكنة، لأنّنا نعيش في سياق الإمكان في الحلول والضرورة في الأحكام.

وأذكّر في النهاية بأنّ النّقاش هنا ليس الغرض منه النّط إلى الأحكام هو هو جاري في زمن الحكم أيضا بالرداءة الفقهية، بل المطلوب الدعوة إلى مخض الفتوى مخض السّقاء واجتناب قياس إبليس واستحساناته، وأن نجعل من كبرى مقاصدنا الحق في التنمية والعمل والعدالة، في الجدل القائم بين السلفيات حول قروض انطلاقة لا نجد رأيا صحيحا لأنّ النوايا تتجاوز حاجة المواطن وفقه التنمية ومبدأ العدالة، فالذين أفوا بالحلّية كالذين أفتو بالحرمة غارقون في اقتصاد الريع والصفقات، وأنا على يقين من أنّ روح فتاوينا لها صلة بامتيازات معينة لأنّها مؤطّرة بميول فقهانية وجب أن لا تتجاوز نظام المعاملات في دولة تصدير الفتوى، لكن لماذا لم نفكر فيما لو كان يصحّ أن تدفع كل تلك الفوائد عن الشباب المقاول – إن كان ولا بدّ من ذلك – من ريع وزراء ونواب تلامذة صاحب كتاب الحلال والحرام؟

https://anbaaexpress.ma/64i5l

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى