آراءثقافة

فيزياء الجوهر وفلسفته

لطالما استهتروا بفلسفات الجواهر الثابتة، كنا في الفلسفة الحديثة في بواكيرها، نشعر بهذا التردّي الجوهراني، الذي لوّحت العلوم الحديثة بتجاوزه، ربّما بتنا أمام الجواهر كعائق، لنتحدّث حسب غاستون باشلار عن العقبة الجوهرانية، وسنجد هذا الازدراء في عبارات من قبيل، أن الفلسفة الجديدة تجاوزت فلسفات الجواهر والعلل الأولى، كل هذا صحيح ، فثبات الجوهر شوّش على ثبوته، وانتقام الفلسفة من الجوهر آلت إلى نبذه، فحينما يثبت الجوهر يفرز من حوله سمات، ومعالم مؤثرة في مصير المعرفة، من هنا فالعائق الجوهراني في الواقع ليس كما ذهب إليه باشلار وهو صادق فيما ادّعاه، ولكن، إن شئنا مزيدا من الدّقة، فإنّ العائق هنا هو ثبات الجوهر لا ثبوته.

حينّما تحرّك الجوهر، تقوّضت العقبة الجوهرانية المزعومة باشلاريا، أو بالأحرى الصحيحة بلحاظ الثبات لا الثبوت، ولربما شوّش الثبات ليس فقط على الثبوت فحسب بل على الإثبات أيضا، فأصبح القول الفلسفي خارج الثبات ومصداقه الأبرز الجوهرانية. لكن تحرّك الجوهر غيّر كل ما في جعبتنا من أحكام قيمة، إنّ الحركة الجوهرية تقوّض نظام العلامات والآثار الناجمة عن ثباته، ذلك لأنّ الجوهر حينما يتحرّك، تتحرك معه الأعراض بما فيها الفعل والانفعال، الأين والمتى، فأن يفعل وينفعل إزاء المتحرك ليس هي أن يفعل وينفعل إزاء الثّابت.

بالأمس كانت الأعراض تزهوا بحركة مفصولة عن الجوهر، لكن الجوهر حين تحرّك قوّض شرف الأعراض، واستعاد دوره.

إنّ رحلة الفلسفة كانت دائما باتجاه مخرج متحرّك، حيث ساهم الجوهر الثابت في موت الميتافيزقا التي كانت عبارة عن شبح يترنّح حول أشكال من العلامات المضللة.

ليس هناك من انقلاب أعظم في الفلسفة من الحركة الجوهرية، تلك التي جعلت الماهيات في حراك وشؤون ومراتب من التنسيب، متكاملة مع الوجود  الذي منحته مغزى متعاليا في تأصّل أطلق سراح الماهيات مذ منحها حرّية الاعتبار، وأخرجها من ثباتها. تبدو الكينونة خبرة في الوجود بالوجود، في مُنفتح الماهيات المتحركة في الآفاق، الكائن المتجدد الوجود كتجدد المعنى والإنزال.

تجاوزت الفلسفات الحديثة فكرة الجوهر، لكنها لا زالت منغمسة في تداعيات الثبات؛ فالجوهر غاب لكن أيديولوجيا الثبات أو بالأحرى عقبة الجوهرانية الثابتة لا زالت حاكمة على القول الفلسفي، هذا ما يعني أنّ الفلسفة لا زالت مدينة لصفة شيء تجاوزته، لكنها في هذا الزعم لم تكن سوى في حالة هروب.

فلا زالت تداعيات وآثار الأحكام التقليدية جاثمة في الفكر الفلسفي والعلمي، وذلك قبل الثورة الكوانتيكية، تلك التي جرفت الأعراض، وحرّكت كلّ الشيء، الأشياء والمصفوفات والحقل والحيز والزمان، لا شيء بات ثابتا، لا أقول لا شيئ أصبح ملتبسا، لأنّ ماهية الحيز والزمان الكوانتيكي هو حيز واضح جدّا حين نحرّك الجواهر، وحين ندرك بأنّ هذا الطيش الجزيئي والإلكتروني ما هو إّلا علامة على حراك ذلك الجوهر الذي ندرك قيمته في حراك الأعراض والعلامات، إنّه يراسلنا بمنطق الحركة، إنّه يؤكد باستمرار أنّ الحركة هي القيمة الثابتة الوحيدة التي يجب تعقّلها لتفادي الشرود في متاهة الأعراض المتقلبة.

قانون الحركة يتوقف على استيعاب الجوهر الحرك، أمّا الأعراض فهي دالّة على تلك الحركة، لا بل هي عند الوقوف عندها دون اعتبار الجوهر، لن تقدّم إلاّ فوضى. لكي ندرك النّظام، علينا إدراك الجوهر، ولكي ندرك النظام علينا أن لا نجعله نقيضا للحركة، فالحركة لا تعني الفوضى، بل تعني النظام بعينه.

لم تودّع الفلسفات الحديثة أباها أرسطو، لا تهم تفاصيل القول بل المعوّل عليه في حكمنا هو الموقف من الجوهر. حتى الآن لم يقم بحث في الجوهر يتوجّه إلى الآثار الفلسفية العميقة الذي خلّفها القول بثباته، ليس في الفلسفة فحسب بل حتى في العلم. أريد من تحريك الجوهر ليس انقلابا في إبستيمولوجيا الحركة، ليس تقويضا لفلسفات الجواهر الثابتة، دون أن يسري هذا الانقلاب في سائر مباحثها، إنّ الحركة الجوهرية حتى اليوم هي مطلب يكاد يغرق في منحاه السكولاستيكي، ولكنه غير منزّل على موضوعات لا زالت مدينة للقول بثباته.

أين يا ترى يمكن أن تتنزّل الحركة الجوهرية في أنطولوجيتنا، في قولنا الميافيزقي، في سياستنا واجتماعنا وقيمنا، في فيزيائنا؟

إنّني ألمس في الحركة المتاحة اليوم، إن فلسفيا أو فيزيائيا (ميكانيكيا) ماهية حركة الأعراض وليس ماهية حركة الجوهر، لقد بدأت أحدس هذا الميز الخطير بين أنواع الحركة الأصيلة والحركة العارضة، وفي تقديري، فإنّ حركة الأعراض إذا لم نعتبرها كما فعل ملاصدرا قديما، دالّة ليس إلاّ، على حركة الجوهر، فإنّها ستكون شكلا آخر من الثبات، الحركة كعارض ثانوي على الثّبات.

لا زال العالم غير قادر على الأُنس بالحركة، لا زال يرى السعادة في الثبات، لا زال ينظر إلى الاستقرار كثبات، وهو وَهْمٌ حتى في منظور توازن القوى ميكانيكيا، فكم من نشاط تفرزه القوى لتحقيق التوازن، الاستقرار حركة، في السياسة والاجتماع والقيم كما قلنا. هذا الكائن في خبرة الوجود كمن يمشي فوق حبل يتطلب مهارة فائقة في التوازن، في عدم الوقوف، في العبور، ممشى الوجود من الخطورة بحيث من “تثابت” سقط.

أسباب الخراب غياب التدافع، انهيار الاستقرار هو غياب تلكّؤ الحركة وفسادها، تبدو الحركة الجوهرية حقيقة في الوجود، بها كان الوجود نفسه خيرا محضا، وكلّما تدانى الوجود وتكدّر، انعكس ذلك على مراتب الحركة، فهي في الإسراع والبطؤ بحسب مراتب الوجود، إنّ الحركة تجلّي للخير الوجودي، وإذا تحرّك الجوهر ظهرت منازل الوجود وحقائق المعرفة.

https://anbaaexpress.ma/0z8bm

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى