
أوكرانيا هي بيدق آخر متنازع عليه على لوحة الشطرنج بين عدة (ملوك) قوى دولية، في ظل تخمينات أي جانب من الميزان سيقلب نتيجة وكفة الصراع الروسي الأوكراني، وأي مظلة ستلجأ أوكرانيا تحتها، لكن الهيمنة الروسية بشكل عام، تم الحفاظ عليها في مواجهة أوكرانيا المرهقة والمستنزفة بشكل متزايد.
على الرغم من حقيقة أن الهجمات الأولى على كييف، لم تعطي النتيجة المرجوة التي يريدها بوتين، فغير إستراتيجيته للتركيز على شرق أوكرانيا.
في شرق أوكرانيا، هناك العديد من المناطق الموالية لروسيا علنًا، كذلك الذين حاولوا المقاومة ضد القوة البوتينية، مثل خيرسون وماريوبول، في الأخير سقطوا في يد القوات الروسية منذ شهور، والآن أصبحت منطقة لوغانسك، بعد سقوط مدينة ليسيتشانسك، تحت السيطرة الروسية الكاملة.
في هذا السيناريو الجديد، جلب الحكم الروسي على هذه الأراضي سيناريو جديدًا إلى جانب إعادة تشكيل جديدة للخريطة، جعل العديد من الخبراء يتسائلون عما إذا كانت هذه المناطق ستلوح بعلم أزرق وأصفر مرة أخرى.
وسرعان ما وصلت المساعدات العسكرية بختم أمريكي وأوروبي إلى الدولة الأوكرانية، وكذلك المساعدات الإقتصادية والعقوبات ضد موسكو، في مواجهة غزو منظم طلبت أوكرانيا من دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة دعمها، وعرفت الولايات المتحدة كيفية الرد بشكل مباشر وغير مباشر، علاوة على ذلك، وإدراكًا للتهديد الروسي على الأراضي الأوروبية، أصبح الإتحاد أقوى ووافق في وقت قياسي على إجراءات تصدير أسلحة جديدة تهدف إلى أن تكون بمثابة رادع لموسكو، لكنها في الوقت الحالي ليست كافية، بالنسبة للعديد من الخبراء العسكريين.
في هذا السيناريو، كان الرئيس الأوكراني، زيلينسكي واضحا جدًا، “لن تنتهي الحرب إلا بالاسترداد الكامل لوحدة الأراضي واسترجاع السيادة”، وهو قرار يتعارض وجهاً لوجه مع إمكانيات التفاوض الأخرى التي كانت تحاول دول مثل فرنسا والمملكة المتحدة طرحها على الطاولة، في ضوء ذلك من غير المرجح أن تعود هذه الأراضي إلى السيادة الأوكرانية، حسب العديد من الخبراء.
إذا كان الأمر كذلك، يمكن لروسيا بالفعل أن تعلن أنها منتصرة بطريقة معينة، أو على الأقل هذا ما تحاول أن تعكسه، لكن بوتين تمكن من تحقيق أحد أهدافه من خلال غزو هذه المناطق، جذب جزء من أراضي أوكرانيا إلى المدار الروسي، يمثل غزو دونيتسك ولوغانسك إنتصارا على الرغم من أنه يعتبر مكلفًا، إلا أنه يمثل ضربة خطيرة للدولة الأوكرانية.
بالنسبة للمحللين، يقدم لنا السيناريو الحالي “عودة إلى بداية المشكلة” لأنهم يؤكدون أن الصراع في شرق أوكرانيا كان مخططًا له منذ سنوات.
صرح مؤرخ ومنسق درجة الماجستير في السلام والأمن والنزاعات الدولية في جامعة سانتياغو دي كومبوستيلا، لويس فيلاسكو، لمجلة أتالار الإسبانية الدولية، أن هذا الموقف كان متوقعا، ولكن “تصرف روسيا العدواني كان مفاجئًا” بالإضافة إلى الطريقة التي تم تنفيذها، لمحاولة فهم كيفية تنفيذ الهجمات العسكرية الروسية، يؤكد فيلاسكو أنه يجب على المرء العودة إلى تاريخ البلاد، لأن روسيا لديها “تقاليد عسكرية سوفيتية وقيصرية” مهمة، إنه يشير إلى أن روسيا “تكبر أمام عدو ولديها قدرة هائلة على التعبئة العسكرية، إنهم متشبعون بالثقافة القومية فضلا عن فكرة التضحية والدفاع عن الوطن، فالإرث السوفياتي والقيصري يلعب دورا مهما في سياسة الدولة العميقة في روسيا.
وأضاف الخبير لهذا السبب، فإن عنصر العسكرة، الذي يضاف إلى التضليل الكبير الموجود داخل المجتمع الروسي، وإلى جانب القومية الروسية القوية التي تثير الحروب بشدة، يفسر عدوانيتها، يؤمن الروس بدعاية الكرملين وهذا يجعل آلية التعبئة ضخمة، فإن قيم الإتحاد والتضحية توحد المجتمع بأسره، بغض النظر عن الأفكار السياسية، ويوضح قائلاً: “لقد اختار الروس تقليديًا هجمات التشبع، كما حدث في الحرب العالمية الثانية”. “انتهى الأمر بهذه الهجمات إلى إرباك الألمان، حيث نفد الرصاص قبل نفاد رجال الروس”.
وفي سياق متصل يرى مراقبون، أن حدة الصراع آخذة في التناقص، على الرغم من أنه من الملائم بشكل خاص لروسيا أن يأتي الخريف والشتاء مرة أخرى لأنها في مصلحتها، وهو أن قدوم فصل الشتاء يعتبر أحد المفاتيح الأساسية في هذه المواجهة، لأن روسيا لا تزال واحدة من المصدرين الرئيسيين للغاز إلى أوروبا، وفي هذا القطاع، تمكنت كل من روسيا والولايات المتحدة وقطر من ترسيخ نفسها في عام 2021 كموردين رئيسيين للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا.
وتدرك روسيا وضعها المتميز، فيما يتعلق بالغاز، فمن الصعب جدًا على الإتحاد الأوروبي الحصول على موردين آخرين أو غاز أرخص على المدى القصير، من ناحية أخرى ستعرف الولايات المتحدة كيفية الإستفادة من هذا الوضع لأنها ستضاعف إمداداتها من الغاز إلى أوروبا ثلاث مرات، مع إرتفاع الأسعار، ومن المتوقع أن تزيد صادراتها، وفقًا لبيانات من Gasindustrial، فإن سعر الغاز الطبيعي الذي يصل إسبانيا من الولايات المتحدة أغلى بنسبة 40٪ من السعر الذي يتم الحصول عليه من روسيا.
فالغرب يعرف جيدا، أن إعلان الحرب على روسيا يجلب معه إعلان الحرب على سلعها ومواردها، وهو أمر لا تزال أوروبا لا تستطيع تحمله، بخلاف فرض عقوبات على اقتصادها، لكن دعم أوكرانيا لن يتضاءل بسبب ذلك.
هذا أيضًا هو رأي الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، الذي خاطب أعضاء البرلمان الأوروبي، “دعم أوكرانيا له ثمن، لكن ثمن عدم دعمهم أعلى بكثير“.
على الرغم من هذه التصريحات الحازمة، فإن الواضح أن الحروب لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، بالإضافة إلى التكلفة البشرية والمالية الباهظة جراء هذه الحرب، بسبب إستحالة القدرة على الإستمرار في هذا الوضع الذي سيترتب عليه عواقب إقتصادية يصعب تحملها.
في ظل هذا السيناريو، فإن أوروبا تعاني وستعاني أكثر من العواقب المباشرة للحرب وفي جميع القطاعات، من ناحية أخرى، تقع أوروبا تحت مظلة الولايات المتحدة، مما يجعلها تفقد تقريبًا كل إستقلالها في الدفاع والأمن.
بالإضافة إلى ذلك، سينتهي الأمر بتحمل الإتحاد تكاليف إعادة هيكلة أوكرانيا ودعمها، ناهيك عن إعتماده على روسيا في قطاع الطاقة، وكذلك في قطاع المعادن والمعادن النفيسة.
كل هذه الأسباب يمكن أن تؤثر على أوروبا لتفقد قدرتها التنافسية في وقت قياسي تقريبًا، في غضون ذلك، كانت الولايات المتحدة ستنجح في إكتساب التماسك الداخلي والمكانة الدولية على حدٍ سواء، وكانت ستنجح في إعادة توجيه تركيز الناتو إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي تقع خارج مصالح الحلف، بالإضافة إلى هذه التطورات على المستوى الاستراتيجي، تواصل واشنطن جني الأموال من بيع الأسلحة والنفط والغاز.
من ناحية أخرى، في إطار هذا الصراع، يمكن للصين أن تصبح الدولة الأكثر قوة لأنها ستعطي صورة مثالية “كشريك موثوق” وغير متحارب، هذه الصورة تجعلها جذابة للغاية لدول مثل كمبوديا والفلبين وإندونيسيا وتايلاند، بالإضافة إلى الهند.
بهذا المعنى، كان بإمكانها إعطاء صورة مختلفة عن صورة الولايات المتحدة، وإنسحابها الأخير من أفغانستان، دل على أن أمريكا دائما كانت حليف غير موثوق.
لذلك يرى خبراء في الجغرافيا السياسية أن الصين والهند وإلى جانب روسيا سيكونون البديل في النظام العالمي الجديد، وتجمع البريكس الذي تنتمي اليه هذه الدول بجانب دول أخرى كالبرازيل وجنوب إفريقيا، يدل على أن نظام مابعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد يصلح بسبب المتغييرات الجيوبوليتكية التي تعصف بالعالم.