تقاريرثقافة

مع هانز كوكلر.. في ملتقى الفلسفة والتقنية

لا زال الرهان على الفلسفة، من حيث أنها باتت المعقل الأخير للمقاومة ضدّ استبداد التّقنية، وها هنا بالتحديد تكمن راهنيتها. ليس أمامنا أي طريق لحلّ المعضلة التقنية بتقنية أخرى، فالأمر يتجاوز البعد الآلي للتقنية، إنه يضعنا في جوهر الأزمة الإنسانية.

كنت أنتظر قدوم هانز كوكلر كبير فلاسفة النمسا ضمن البرنامج الذي قام بتنسيقه الصديق د. حميد لشهب، الذي لا زال يكدح لمدّ الجسور بين الفلسفة الجرمانية والثقافة العربية، وهو المترجم الحصري لأعمال أستاذه هانز كوكلر. تكمن أهمية هذا الأخير في كونه أكبر المتخصصين في فلسفة هيدغر، وأيضا هو شيخ خبراء القانون الدّولي، المعروف بمناهضته للهيمنة الثقافية ودفاعه عن أكثر القضايا العادلة في العالم عموما.

ماذا يعني أن يكون كوكلر هو كبير المتخصصين في هيدغر؟ إنّه يعزّز الموقف المتداول لدى الكثير من الأوربيين الذين يتحدّثون عن صعوبة ترجمة هيدغر. لكن ماذا يعني صعوبة ترجمة هيدغر؟ هل هذا يعود إلى اللغة الألمانية في حدّ ذاتها؟ أم يعود للمترجم؟ أم هي مشكلة هيدغر؟ في تصورّي إن عبقرية اللغة، أيّ لغة، تكمن هنا، في قدرتها على الانسياح بين الثقافات، ولطالما اعتبرت أنّ هيدغر يمكن ترجمته حتى إلى لغة الهنود الحمر، وهي لغة شفوية تحمل ثقافة خارج المعضلة الميتافيزقية الغربية التي اشتغل عليها هيدغر. تبدو المشكلة في اللغة الصناعية، والتعقيد الذي تفرضه المعضلة الوجودية في سياقها وشروطها الاجتماعية والثقافية، وطريقة تمثّل تلك المعضلة هيدغيريا؛ فالأمر ذو صلة باللغة الصناعية وليس اللغة الطبيعية. إنني لا أريد أن أستعجل النقاش، في مفارقة النقد الهيدغري للتقنية، بينما يسري الأمر نفسه على اللغة الصناعية، ليست وحدها التقنية التي تؤثّر في بيئتنا الثقافية واللغوية تحديدا، بل إن الميتافيزقا نفسها قد شكّلت ذلك التّحدّي. وهذا ما سنكتشفه مع هانز كوكلر في واحدة من التعبيرات الدقيقة: الاستكبار الميتافيزقي الغربي. وأحب أن أفتح هاهنا قوسا، حول معضلة لغة هيدغر؛ فالبروفسور حميد لشهب خبير بالمعضلة المذكورة، وذكي إلى حدّ أنه عرف كيف يقطف بخفة بروميثيوسية سرّ هذا التعقيد، فلقد كان يطارد هانز ليل نهار لتوضيح أي عبارة أو مفهوم هيدغيري بما يشفي الغليل ويطلق سراح الترجمة الصّلبة بشروطها المشبعة. طبعا نسمع مرارا ترديدا بأنّ هيدغر يستحيل ترجمته، والمفارقة هي أنّ معظم من يكرر هذا الحديث، هو من ترجم هيدغر من لغات لاتينية غير ألمانية. لشهب يؤكد بدوره أنّ صعوبة النص الهيدغيري ليست حصرية على الأوربيين من غير الجرمان، بل الألمان أنفسهم يجدون هذه الصعوبة. وإذن هذا ما قصدته حين قلت أن المعضلة هي معضلة هيدغر، غير أنّ هذه الصعوبة هي نابعة من التعقيد الذي تفرضه خصوصية السؤال الأنطولوجي الهيدغيري، وكيفية استيعابه للمعضلة الميتافيزيقية الغربية. لشهب وبشهادة كوكلر يتحدّث لغة هيدغر. ويؤكد لشهب بدوره أنّ كوكلر لما تناول الفلسفة الهيدغيرية في حياة هيدغر واطلع هذا الأخير على ذلك، شكره وهنّأه على اعتبار أنّه لم يسقط في لغة هيدغر، بل حاول عن طريق تأويلها، أن يشكل وسيطا ناجعا بين هيدغر والألمان أنفسهم.

في المعضلة التقنية

أبدأ من الكلمة التي ابتدأها د. محمد الدّكالي، وهي في عمقها ودقّتها، أكملت مهمّة كوكلر صبيحة ملتقى التقنية والفلسفة، بحضور الفيلسوف النمساوي هانز كوكلر واحتفاء بالراحل المفكر المغربي د. محمد سبيلا. لكن قبل ذلك أحبّ أن أتحدّث عن الدكالي. لقد كانت فرصة لكي نتواصل من جديد بعد سنوات طوال، لفيلسوف من طراز مختلف. العرب يعرفون عن الفنان عبد الوهاب الدكالي، لكنهم لا يعرفون إلاّ قليلا عن الفيلسوف محمد الدكالي. هل لأنّه نحى منحى سقراط المعلّم، مستكفيا بالشّفهي باعتباره أصل الكتابة؟ لكن الدكالي يسرد قوله الفلسفي شفهيا على نمط كتابي، هو يتكلّم كأنّه يكتب؛ يحدّد السطر والنقطة ويضع الفواصل، إنّ شفهية الدكالي نصّ مكتوب في الهواء قولا، موشوم في الذّاكرة معنى. لطالما اعتبرت الدكالي من الحفّاظ، ووجب أن لا نفهم الحفّاظ إلاّ بالمعنى السكولاستيكي، فكان أولى أن يسمّى الفيلسوف الحافظ. منذ استمعت له أوّل مرة حديثا عن سبينوزا، وطريقته في استحضار النصوص الكبرى والطولى. يستشهد على طريقة الحفّاظ بنصوص طويلة موثّقة، ويحدد لك صفحتها عن ظهر قلب، إنّه سكولاستيكي بامتياز. وقد ذكرته قبل الجلسة بأنّه يتعاطى الفلسفة كما يتعاطى الفقهاء بالإحالة على النصوص والأراجيز وكأنه فقيه يحيل على أرجوزة ابن عاشر، هذا ليس غريبا، فثمة دكّالي آخر من كبار حفّاظ المغرب: أبو شعيب الدّكالي، له عبارة تقليدية في الحفظ: “احفظ تجد ما تقول” .

ابتدأ الدكالي حديثه ذلك انطلاقا من الملاحظة التي حدثته عنها، ورأى أنّها طريقة يتجاوز من خلالها الخطاب الإشاري للفلسفة، بل يقف عند النّصوص. إنّ درس الدكالي هو في الواقع درس سكولاستيكي بامتياز. وقد كان المرحوم محمد سبيلا قد وصفه بصاحب الذكاء المفرط، وهو محقّ في ذلك. وربما حين أصفه بسكولاستيكي، فإنني أستحضر ادرغار موران، وكيف أنّ إبداع السكولاستيكيين يكمن في حواشيهم. يصنع الدكالي من التناص مخرجات فلسفية حقيقية. أمّا كلمته فقد دارت حول التقنية والسلطة، ألقاها بفرنسية محترفة، كيف لا وهو من تابع دروس جيل دولوز ورعيل من الفلاسفة الفرنسيين، من جيل الحركة النقدية الفرنسية الذين شكلوا منعطفا في القسم الثاني من القرن العشرين.
ما لفت انتباهي هو أنّه اعتبر نفسه دائما ينتمي إلى مجموعة. ولكنه عبّر عن حزن عميق لفقدان صديقه محمد سبيلا، لقد عبر الدكالي بما يكفي ليصور لنا المشهد هكذا: إنّه يستشعر اليوم الوحدة، لقد رحلوا. بدأ الدكالي حديثه عن الموت، الحقيقة التي لا نستطيع التعوّد عليها، لا الأحياء يستطيعون إنتاج علاقة تكيف معها ولا الأموات، إنّ الكائن، كما صوره من خلال مقطع يحفظه عن ظهر قلب من رواية لدوستويفسكي” البيت الميت”، يؤكد على فكرة أنّ الإنسان له قدرة فائقة على التكيف مع كل شيء ما عدا الموت.
لقد فكّك الدكالي جوهر السّلطة، فهي وسيلة ابتكرها الإنسان لتجاوز محدودية إمكاناته، إنّ الحضارات تسعى لتدمير بعضها البعض، لا توجد علاقات خيرية بين الحضارات. هذه السلطة التي يتوقف عليها تحدّي الإنسان لهشاشته، لها صلة بالعلم. لا يمكننا في نهاية المطاف أن نوقف التقنية.

المفعول السحري للتقنية

سيحاول د. حميد لشهب أن يتناول التقنية من منظور الفيلسوف الراحل محمد سبيلا، إنها، أي التقنية في نظر هذا الأخير، باتت كالماء والعشب الذي كان يبحث عنه الرحل القدامى، فالكل يبحث عن التقنية. يذكر لشهب بأنّ سبيلا من أوائل العرب الذين انفتحوا على سؤال التقنية عند هيدغر من خلال الترجمة والتفاعل، وتأمّله لقضية البيو-تكنولوجيا ومخرجاتها الإشكالية-الفلسفية، فهو على هذا الأساس يقرأ في معضلتها البعد الفلسفي، حيث يعتبر جوهرها مسكونا بتصور خاص عن الإنسان والعالم والكون برمته، فهي بهذا تمتلك قواما أيديولوجيا. يكتشف الإنسان التقنية لكنها سرعان ما تعود لتهيمن عليه وتستعبده أو هو من يجعل نفسه عبدا لها، وكأنّ الإنسان لا يكاد يتحرر “إلا ليخطو خطوة في العبودية”. بل إن التحولات المعرفية التي فرضها التطور الفائق للتقنية منذ منتصف القرن التاسع عشر، لم يعد يرهن قراءة الإنسان ضمن مفهومي الزمان والمكان، بل تعين النظر إليه ضمن تداخل المفهومين لخلق واقع زمكاني مندمج. لم يغرق سبيلا في تمجيد التقنية، بل أخذ مسافة موضوعية لسرد جوانب من مظاهرها السلبية، مثل مخاطرها على الطبيعة من خلال ممارسة أقسى العنف عليها غير مسبوق في التاريخ، وهو ما أزاح عن الطبيعة نفسها وجهها الرومانسي.

ستنتهي التقنية ببروز ظاهرة العبر أو المابعدية أو “الترانس”، ما بعد الإنسان، مسهبا القول حول ظاهرة تهدف إلى خلق الإنسان المستزاد، متعرّضا لكوكبة من الفلاسفة الغربيين المعنيين بمناقشة الـ”ترانس” مثل هابرماس، لوك فيري، ساندل، سلوتردايك، مكتشفا فيها حنينا مضمرا لميراث قديم، تنطوي على دفاع مضمر أو حنين مبطّن للإرث المسيحي الكاثوليكي كما عند فيري و هابرماس.

مع هانز كوكلر: الفلسفة والتقنية

ننصت إلى هانز كوكلر، مع أنّنا أمام سفير هيدغيري كبير، لطالما أغنى بمزيد من التأويل وإعادة الإنتاج المفاصل المبهمة واللاّمفكّر فيها في الخطاب الهيدغيري، بما يؤكد لي من دون مواربة أن هانز كوكلر دشّن منعطفا جديدا للهيدغيرية التطبيقية، وهو على كلّ حال له رؤيته الخاصة: هانز هو هانز. إنّ التقنية في كلمة هانز هي أبعد من سؤال تقني محض، بل هي سؤال أنطولوجي، لما تحمله من آثار على الموقف المعرفي والاجتماعي والأخلاقي والأنطولوجي، حيث حاول أن يبرز المعضلة التقنية من خلال هذه الأبعاد كلّها. ثمة محطّات وضع فيها هانز اليد على الجرح. مقاربة عبّرت عن الكثير مما نعيشه من قلق إزاء هذا التدفق التقني الذي فقد الإنسان عليه السيطرة. لعل أهم ما يروقني هنا، هو إبراز أوهام قدرة التقنية على تجاوز الإنسان وحلّ معضلة قصورة. هذه المعضلة التي تفرضها التقنية على المستوى الأنطلوجي لا يمكن حلّها عبر تقنية جديدة.

استجابتي لتحدّي الخطاب

مثل هذا الخطاب لا يمكن أن يمرّ دون أن يذكي فينا ما أمكن من روح الاستجابة للتحدّي. في محفل القول الفلسفي نقف على آماد أكثر عمقا وجدية في قراءة الظاهرات بما فيها السياسية. لعلّ واحدة من مظاهر التّفاهة التي يعيشها عصرنا والتي لها صلة بغباء الصّلة السوسيو-ثقافية بالتقنية التي تحوّلت إلي وسيلة سيطرة على الوعي وإعادة إنتاج المعرفة بأقلّ جودة ممكنة، لصالح خصاء ميتافيزيقي عام، لكائن فقد حتى خاصية الابتكارية واللعب: إنسان لعبي سيّئ، لأنّه بات كائنا تحت طائلة البرمجة، كائن مستجيب فقط. التقنية هي من يفرض ثقافة الحياة والاستهلاك والاهتمام.
ثمة تفاصيل مهمّة تناولها البروفسور هانز كوكلر، وهي في نظري تشكل تطويرا خلاّقا للحاجة الأنطولوجية ليس في سياق النقاش الميتافيزيقي فحسب، بل هي اليوم راهنية في مجال المعضلة الجيوستراتيجية، التي لا زالت آبية لإدراك جوهر المشكلة الإنسانية، والمأزق الميتافيزقي الغربي. وهانز كوكلر ليس فيلسوفا فحسب، بل هو خبير القانون الدولي، وهو يدرك جدلية التأثير المتبادل بين حقلين، وجب النظر إليهما من الآن كحقل شديد التداخل.

سأحاول أن أطوّر ما لخصته في تعقيبي هناك وما أمأت به للسيد هانز على هامش اللقاء، وليس لي سوى التناغم مع رؤية هانز لأنني أحمل الرؤية ذاتها حيال المأزق الذي وضعتنا فيه هذه الميتافيزقا الجديد، باستكبارها وتجاوزها للحاجات الطبيعية. وتعليقي ينطلق من ثلاث منطلقات:

1- العلاقة بين الفكر والواقع وأثر البيئة التقنية

العلاقة مع البيئة هنا أساسية، وأعني البيئة بكل أبعادها البيولوجية والثقافية والمعرفية، ولم لا نتحدث عن البيئة التقنية اليوم. ثمة تأثير ولكن ثمة تأثر ينعكس من البيئة على الإنسان ورؤيته للواقع والأشياء. وهنا أجد من الأهمية بمكان الرجوع إلى جون ديوي، لا سيما في معالجة العلاقة بين الفكر والواقع البيولوجي. والسبب في أهمية هذا الرجوع، هو أنّ ما كان يبدو ضروريا في البحث، من وسائل الحس البيولوجي، هي اليوم مختلفة أو متطورة من خلال دخول ما سماه ليفي ستراوس بشيطان التقنية. الفكرة الأساسية عند جان ديوي هي كون الإنسان لا يعيش في بيئة، بل هو يعيش متوسلا ببيئة. فكل العمليات التي تبدو بيولوجية محض، تحدد نمط اتصال الكائن ببيئته. يبدأ النمو حسب ديوي حينما تزيد الطاقة المكتسبة عن الطاقة المفقودة، وفي حال النكوص يحدث العكس. فعمليات العيش تقوم على ما تقتضيه البيئة وما يقتضيه الكائن العضوي في تبادل الوظيفة معا. ووجب أن نحتفظ بهذه الفكرة، لكي نختبر مدى تحقق هذه العلاقة بين الكائن العضوي والبيئة التقنية. إننا ألاحظ أنّ هذه العملية التكاملية بينهما في حال البيئة الطبيعية فقدت، لأنّنا إزاء تدخل سافر وعنف مفرط بالفعل، يقضي بإعادة إنتاج واقع طبيعة تقنية مختلفة، ولم لا ، إن اقتضى الحال، إعادة إنتاج كائن، واستنساخه لتعزيز الثّقة أكثر بالتقنية وفقدان الثقة في الطبيعة التقليدية. أعني بالطبيعة التقليدية ما يقابل الطبيعة التقنية.

إنّ دخول عناصر جديدة في بيئة الكائن العضوي لا مناصة ستؤثر في طريقة تفاعله وتفكيره أيضا. بالنسبة لجون ديوي فإن اختلال التوازن يبدو أخطر كلما تطور الكائن العضوي في سلم الكائنات. حيث تصبح عملية استعادة التوازن هي في ذاتها إشباعا للحاجة. يتناول جون ديوي طريقة تفاعل الاستثارات لدى الكائن العضوي مع كل طارئ وتغير في البيئة الخارجية، وذلك لتعزيز مفهوم التسلسل بدل تجاور السلوك عند تغير الاستثارة، مؤكدا على أنّ السلوك يشمل الحالة الشاملة للكيان العضوي في علاقته مع بيئته. وهذا ما يؤكد أيضا ظاهرة العادة حيث من دونها تصبح العادة حالة تحجّر ليس إلاّ. ليست العادة في نظر جون ديوي نتيجة للتكرار، بل القدرة على التكرار هي نفسها نتيجة للعادة. ويؤكد ديوي على أنّ الأجهزة العصبية العضلية عند الأفراد يطرأ عليها التغيير بتأثير من البيئة. سيتناول ديوي بالتفصيل كيف انتقلت العلوم اليونانية إلى بيئة جديدة، وتجاوزت عوائق البيئة الثقافية اليونانية، وبسبب هذا التحول في البيئة حصل تطور جديد.

ما أردت من هذا التقديم، هو العلاقة البيولوجية والثقافية والاجتماعية بين الكائن العضوي- ولنتحدث عنه الآن بحمولته التي تفرضها عليه إنسانيته – والبيئة التقنية التي أضافت عناصر جديدة كان وسيكون لها تأثير كبير على الإنسان. ولا أرى في حدود الإمكان أي حدود لهذا التأثير. فالتقنية لم تعد طرفا في هذا التأثير المتبادل، بل لقد حازت سلطة فائقة، جعلت الإنسان يستجيب لشروط ما تفرضه حاجياتها أو ما يفرضه من كانوا دائما يستغلون القوة لاستعباد البشرية. لكن يبدو أنّ شيطان التقنية يُعيد إنتاج مأساة فاوست. لا أحد يملك اليوم استغلال التقنية لمصالح طبقية أو فئوية أو عصبية إلاّ وناله منها أثر. فنحن في ذروة الذُّهان التقني. إنّ العلاقة المذكورة سابقا، جاءت في سياق معالجة العلاقة بين المنطق ونظرية البحث عند ديوي، وهذا يمنحنا أفقا لبحث تأثير البيئة التقنية على بنية المنطق نفسها، وصولا إلى أثر ذلك على المنحى الأنطولوجي للكائن، في سياق التأثير أو لنقل العنف المفرط للبيئة التقنية على شروط البحث عن التوازن المفقود. لقد فرضت البيئة التقنية تحدّيا مضاعفا على عملية إعادة التوازن. وهي إن شئت عملية استعادة غير تامّة ولن تكون. لكن ما يبدو اليوم تأثيرا لهذه البيئة، لم يعد تأثير عابرا أو سطحيا، بل هو انقلاب انتهى إلى شكل من الاغتراب، لم يعد يأبه لحاجيات الطبيعة التي تواجه تحدّي الانقراض، ولحاجيات الإنسان الأنطولوجية والأخلاقية والاجتماعية. لا شيء إذن ثابت، وإزاء محاولات ردّ الاعتبار بات التفكير في تجاوز الإنسان بشروطه البيولوجية الطبيعية والأنطولوجية والأخلاقية والاجتماعية، لصالح كائن جديد، لدين جديد يحلّ محل الأديان كما ذهب هانز كوكلر. فالكائن في زهوه التقني فكر أن يسيطر على الطبيعة، لكنه في نهاية المطاف فقد طبيعته.

تستطيع الطبيعة عند اندثار الكائن العضوي أن تستعيد توازنها، لكن أنّى للكائن أن يستعيد ماهيته، بعد أن كسر ميثاق تعاقده مع الطبيعة لصالح التقنية كبديل عن الطبيعة. لقد أخلّ الإنسان بهذا التعاقد، حيث لم تعد التقنية إنسانية بقدر ما أصبح الإنسان تقنية.

2- تجاوز التقنية لوظيفة الاستجابة لقصور الطبيعة

تناولت في نقاش سابق أهمية التقنية في تيسير رؤية الواقع كما هو، وذلك كحلّ لقصور الإنسان البيولوجي. وضربت لذلك مثلا من الصور التي تنقل من الواقع متقطّعة، لكنها عبر التقنية تصل كما هي. ولكي تصل كما هي يجب أن تلتف على قصور الكائن العضوي، عبر تقنية التوهيم. كيف يصبح البصر عبر تقنية التوهيم يرى الواقع كما هو. حتى هنا يمكن للتقنية أن تصبح في خدمة العلم. أصبح الإنسان مذ عرف قصوره البيولوجي يوهم نفسه بنفسه، وهذا ما يعني أن الإنسان يتحدّى قصوره بالوعي. غير أنّ التقنية اليوم لم تعد موضوع امتلاك، بل لقد تجاوزت كونها حيازة إنسانية إلى كونها مالكا لقراره ومصيره. نحن اليوم في خدمة التقنية وليس العكس. هذه التقنية التي تستعمل كما أشار كوكلر في الوسائط لتأمين الهيمنة على العالم، وتستعمل في تقويض الحقيقة ونشر الزّيف.

سندرك لماذا أصبح السباق على التقنية موضوعا إشكاليا في العلاقات الدّولية. فالتقنية تمثل سلطة لإدارة الهيمنة. لا يهمّ مصير الإنسان بقدر ما يهم مصير التقنية. إنّ التقنية توظّف اليوم في محاصرة الإنسان، بل يمكن وضع حدّ لنسله، إن كان ذلك سيعيق إدارة الهيمنة. حاجة التقنية أوّلا، بل يمكن للتقنية أن تهدد البشرية، ليس فقط برفع تحدّي محدودية الكائن، بل تهدده بأشكال مضاعفة من الموت الذي لم ير له مثيلا من قبل. كانت مشكلة الموت تشكل معضلة أنطولوجية للكائن دون تهديدا للنوع، لكنها اليوم في عصر التقنية انقلبت، لتصبح تهديدا للنوع، فهي تملك إبادة الإنسان وتخريب الكوكب. إنّنا إزاء ما يمكن أن أسميه بالمأساة التقنية. إنّ ما يبدو حقّا عجرفة ميتافيزقية، تفرض أن نؤكّد على شيء ها هنا مناسبة البوح به:
إنّني لا زلت أنظر إلى التقنية كظاهرة بكماء، غير قادرة أن تتمثّل الإنسان، فهو من يودع فيها مظاهر مثاله الأسوأ. هذا القصور التقني الذي لن يحلّ قصوره الطبيعي. إنّ التقنية لن تخلق كائنا خصب الخيال، إنّ شيئا ما في الطبيعة الإنسانية أقوى وأسرع من التقنية، ولن تهزمه التقنية، ألا وهو الحدس. لا تستغني التقنية عن الإنسان، لكن الإنسان يمكنه الاستغناء عنها، بل يمكنه تعديل سلوكه حيالها، لأنّها باتت مفرطة، تتجه إلى تأمين السيطرة والزيف وكل ما من شأنه تحقيق التجاوز للطبيعة ومقتضيات الأنطولوجيا، يتعين إعادة التقنية إلى بيت الطاعة الإنساني.

3- كلّنا في التقنية غرب
كان وسط مجموعة من أساتذة الفلسفة، رجل غير معني سوى بالتفكير. وهذا ما يؤكد أن الفلسفة كلما باتت مرتهنة للكاطيغورياس، انتابها من نسيان الوجود ما لا حدود له. نطق أحدهم وهو في حالة تمجيد لمظاهر الحداثة واختزالها في التقنية، أحدهم قال: كيف نرفض الحداثة، واليوم في ظرف ساعة أصل إلى مدينتي التي كنت أصل إليها من قبل بعد ساعات. أليست هذه ثورة في حد ذاتها ضدّ التخلف؟
ثمة معضلة كبيرة في هذا الاختزال، وربما هنا تكمن أهمية المقاربة الهيدغيرية للتقنية، وهو موضوع هانز كوكلر، فالتقنية ليست تقنية محض، بل هي هنا من حيث هي علاقة تمسّ جوهر الماهيات والأشياء. ومن هنا، كان محقّا ذلك الشخص الذي أجاب بالقول:
في هذا القطار السريع، لستم أنتم الحداثيون وحدكم من يصل في وقت مبكر، فالمتخلفون يصلون معكم في نفس الموعد وكذا المجرمون والحمقى. ليس هناك تحوّل في جوهر الأشياء.

لا شكّ أنّ الحديث اليوم عن التقنية، يتعلق بماهية كائن مُصاب في أصل وجوده. إنّ طريقة تموجدنا هي من يحدد صورة ماهيتنا. بما أنني لا زلت أذهب مذهب أصالة الوجود، فإنّ سؤال الماهية لا زال في ظنّي شكلا من التباكي على أزمة لا يمكن أن تنحلّ إلاّ بإعادة النظر في الموقف من الوجود المُؤَسِّس. وربما هنا تكمن أهمية الهيدغيرية بوصفها أعادت القيمة للكينونة والموجود، وهي خطوة يمكنها أن تمهّد الطريق لإعادة سؤال الوجود إلى مركزيته. إنّ التقنية تشكل تهديدا للماهية من حيث ما رامه هيدغر في معضلة نسيان الوجود، والعناد الذي سيصفه كوكلر بالغطرسة الميتافيزقية الغربية، وأعتقد أنّ مواجهة المعضلة التقنية، لن يكون لا بتقنية بديلة، ولا بفلسفة لا زالت وفيّة لسؤال الماهيات، بل هذا مسؤولية الحكمة المتعالية في أصالة الوجود والحركة الجوهرية، شريطة أن ندخل اليوم منعطفا جديدا: الحكمة المتعالية التطبيقية.

https://anbaaexpress.ma/9kyc5

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

‫2 تعليقات

  1. مقال ممتاز ، يعيدنا الى صلب أهمية حضور الفلسفة المتابع لتطور العلوم ،قراءات حول المد التقني تذكي موقف هيدجري مؤسس على ان( العلم لايفكر).

  2. تحية طيبة..
    (الشيطان والأخلاق، كيف نحد من شيطنة التقنية)….التقنية من نتاج العلم والتقنية مرتبطة بمهارت الاستخدام والتوظيف، ولكن هناك بُعد مهم جدا وهو الأخلاق، كيف نوازن بين الثلاثة ابعاد (التقنية والمهارة والاخلاق) فالعدالة الانسانية تتطلب التوزيع للتقنية واكساب المهارة (الاستخدام والانتاج) في ابعادها الاخلاقية لسد الفجوات بانواعها بين البشر والتي تقترب من التعقيد من جهة وتقترب من فقر الامتلاك من جهة أخرى…
    دمتم بود استاذي العزيز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى