آراءمنوعات

روت لي جدتي

أنا رجل ولد في مدينة عجائبية اسمها القامشلي في أقصى الزاوية الشرقية الشمالية من سوريا على الحدود التركية تماما كما هو في مدينة أحفير المغربية على الحدود الجزائرية.

فيها ألف ملة ونحلة وثمانية ديانات وعشرين لغة مايجمهم هو الرزق والعمل فالأرض خصبة زراعية فنسوا أديانهم ولغاتهم وانخرطوا في العمل والربح والتهريب أيضا للأراضي التركية، وكانت الليرة السورية يومها قوية بقوة ليرتين مقابل الدولار الأمريكي، واليوم مع النظام الأسدي أصبح الدولار يعادل 13 ألف ليرة سورية وهذا يخبرك عن عظم السرقة التي قامت بها العائلة الأسدية من عالم السنوريات وأين وصل مقدار الهدم والانحطاط.

على العموم أغوص الأن في الذكريات من خمسينيات القرن الماضي لأنني ولدت عام 1945م كانت جدتي تروي لنا قصص سرقات اللصوص كما نعيش حوادث الطرق هذه الأيام وكنا نحن الأطفال نتعجب من هذه الروايات التي لم نرى واحدة منها فكانت مبعثا طريفاً للتسلية والتندر وانطلاق الخيال في أشكال اللصوص وماذا يرتدون وكيف يبدون؟

كما كان حديث الجن رائجاً وقصص احتفالاتهم الليلية شائعة فكانت آذاننا تجزم أننا نسمع (هوساتهم) و(دبكهم) فكان أحدنا يشعر بقشعريرة في جلده ويضم بعضه الى بعض أن يكون أحدهم قد تسرب خلسة الى المجلس.

كذلك كانت الطرقات في الفترة التي وعيتها في بداية تزفيتها ومازلت أتذكر حديث الناس عن (الأربع وأربعين) ولم يكن يعنى بها الحشرة المسماة بأربع وأربعين رجل بل كانت مسافة غير مسفلته ويسميها المغاربة الجودرون وهو الذي أذهل رؤوف في قصة بنت أوفقير التي سجنت مع عائلتها ثم حفرت نقبا وهربت ولم يكن الطفل الذي سجن عشرين سنة يعرف الجودرون؟).

كانت المسافة التي نعبرها بين دير الزور والحسكة في الزاوية الشرقية من سوريا بدون سفلتة (جودرون) فهذه بقيت لفترة طويلة بغير زفت فكان السائقون يخوضون غبارها بحيث يصل المرء الى حلب وهو يعبق برائحة الغبار مذكراً بعربات السفر في العصور الوسطى.

وأتذكر جيدا حين مرضت قريبتي (وصفية) واحتاجت الى عملية (مرارة مستعجلة) أخذناها الى مشفى في حلب اسمه (فريشو) وهو ماعانت منه أيضا أمي فانتظرت أكثر من اربعين عاما على حصاة صامتة حتى أجريت لها العملية في ألمانيا حين زارتني.

ومازال عالقا في ذاكرتي الجراح في مشفى حلب (فريشو) أظنه كان فرنسيا على ما أذكر، وكان إجراء عمليه مرارة أو فتح بطن في نلك الأيام من العمليات النادرة والخطيرة للغاية، ولم يكن يومها معروفا شيء اسمه عناية مشددة (ICU) وكان التخدير يتم بواسطة كمامة توضع على الوجه ثم تقطر مادة الأثير فوق أنف المريض فيستنشقها أقرب الى من يختنق.

وهو ما رأيته أيضا حين عملت في عيادة رفيق أبو السعود في القامشلي وأنا أرقب المرضى والإصابات والوصفات الطبية حين كنا نأخذ المرضى إلى صيدليات بعينها فيعطوننا نصيبا تافها من أرباحهم؟

وبالطبع في العمليات الجراحية كان لابد للأطفال من ربطهم حتى يتم تخديرهم وهذا ما حدث لي وانا طفل؟

ومازلت أتذكر تلك الساعة العصيبة من الشعور بالاقتراب من الموت وكان ذلك في حفلة الختان حيث جرى ذلك على الطريقة التركية بحفلة كبيرة للأطفال في عمر عدة سنوات وليس كما رأيت في المغرب بالطهور (الختان المبكر) فانغرست في ذاكرتي حتى اليوم؟

وعاصرت أنا هذا عندما كنت أعمل مع طبيب عام يمارس الجراحة وهو غير جراح لعدم وجود جراحين في المنطقة، وكانت التخصصات في بدايتها احياناً وكانت تمارس بطريقة بدائية، ويعتبر ذكرى طبية مقارنة بما يجرى اليوم في المشافي.

وكان ختان الأطفال كما ذكرت يجرى أحياناً تحت هذا اللون من التخدير فيربط الأطفال وكأنهم يساقون الى الموت وهم ينظرون قد وصل زعيقهم الى مائة متر.

ولعل المتقدمين في السن يتذكرون أيضاً هذه الأيام ولقد قفز الطب قفزة نوعية في تأمين الخدمات الطبية بما يعجز الخيال عن تصوره، وانا شخصيا أذكر أين كانت الخدمات الصحية في أيامنا قبل خمسين عاماً وأين أصبحت الان في مع هذه النقلة النوعية.

ومازلت أتذكر صديقنا الذي تعرض لانفجار زائدة دودية في أحد القرى المجاورة للقامشلي كيف حمل عل حمار من قريته وكان هناك في القامشلي شبه جراح فتخوف من العملية جداً ولكن صديقي نجا بأعجوبة من الموت وليس عندي إحاطة بنجاته وهي عندنا من أبسط العمليات الجراحية ولكنها الأيام، ومما أذكر للملك البريطاني الذي خلف الملكة فيكتوريا كيف تعرض لالتهاب زائدة دودية حاد في يوم تنصيبه ولكن الإمكانيات عندهم كانت بدائية ولكن لابأس بها مع أنها في ظلام القرون؟

أما جدتي رحمها الله فقد تعرضت (لعقدة مصران) وأتوقعها انسداد معوي أو ربما ورم خبيث سد المجرى فتركت لمصيرها حتى ماتت وقد انتفخ بطنها مثل الطبل لأن الجراح قال لهم (مافي جارة وتلفظ الجيم المعطشة بثلاث نقاط تحت حرف الجيم أي لا أمل) فماتت مختنقة بالبراز في أشنع ميتة ممكنة.

واليوم يمكن لطبيب مقيم أن ينقذها بفتحة بسيطة وبتخدير موضعي بفتح الكولون على الجلد للخارج فتموت وهي مرتاحة بدون آلام فظيعة فضلاً عن عمليات الاستئصال التي تجرى حالياً للأورام.

ولكن حظها أنها ولدت في تلك الأيام رحمها الله. وأتذكر في رحلة اختصاصي في ألمانيا كيف كنا نجري عمليات الكولونات في قفزة في عالم الطب مع ذكرياتي التعيسة من مدينتي المقرودة القامشلي؟ وهذا هو جدل التاريخ وتطور العلوم بما فيها الطب. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد. إنها ذكريات كالحات من أيام نحس مستمر.

https://anbaaexpress.ma/ys7z4

تعليق واحد

  1. ويالها من ذكريات. ومن منا لم يعاني احد افراد عائلته مما ذكرتَ. شقيقتي الكبرى توفيت بسرطان القولون وعانت منه فترة طويلة مابين القامشلي ودمشق، حتى توفيت في القامشلي، وزارها ابنها بالسّر في المستشفى لأسباب لا تُخفى على المطلع على اوضاع “سوريا وإدارة شمال شرق سوريا”. ووالدتي كذلك توفيت بالرغم من اننا سافرنا من الجزائر لإحراءعملية قلب معقدة في مستشفى (فوش) في باريس، ودفعت الحكومة الجزائرية تكاليف العملية كونني كنتُ مشمولاً بالرعاية الصحية كمتعاقد، ولكنها توفيت في القامشلي بعد ستة اشهر، وعلى الأغلب بسبب فساد مواد تحاليل الدم في مختبرات القامشلي. اما والدي فقد توفي بسبب احتشاء مؤلم في العضلة القلبية. تحياتي القلبية لك وللعائلة الكريمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى