أفريقيامجتمع

التغيرات المناخية.. تدفع المغرب لإعادة تجديد سياساته المائية

يشكل الماء شريان الحياة ومصدر كل نشاط بشري، بدءا من الزراعة والصناعة وصولا إلى تلبية الاحتياجات اليومية للمواطنين. ولذلك، تولي الدول اهتماما بالغا بالسياسات المائية، خاصة في ظل التغيرات المناخية المتسارعة وتزايد الضغط على الموارد المائية. المغرب، كغيره من الدول، يواجه تحديات مائية كبيرة، تفرض عليه إعادة النظر في سياساته المائية وتطوير آليات جديدة للتصدي لندرة المياه، وتدهور جودتها، وضعف الحكامة.

ملاحم الزمن من بناء السدود إلى حكمة التدبير المندمج

منذ استقلاله عام 1956، انتهج المغرب سياسة مائية طموحة تمثلت في بناء السدود لتعبئة الموارد المائية التقليدية. وقد شكل هذا التوجه الاستراتيجي عنصرا مركزيا في تدبير الموارد المائية الوطنية، حيث تم تشييد أكثر من 140 سدا كبيرا، ساهمت بشكل كبير في توفير المياه. وقد مكنت هذه السياسة من تحقيق نجاحات ملحوظة في توفير مياه الشرب، حيث بلغت نسبة تغطية الولوج إلى الماء الصالح للشرب %94 من الساكنة القروية، مع تعميم كامل على الساكنة الحضرية.

إلا أن هذه السياسة، على الرغم من أهميتها، تواجه اليوم تحديات جديدة تتمثل في تناقص الموارد المائية التقليدية، حيث يتراجع معدل هطول الأمطار في المغرب، ويقدر معدل المياه المتوفّرة للفرد بحوالي 700 متر مكعب في السنة، وهي نسبة تصنف ضمن خانة ندرة المياه.

كما تتناقص مخزونات المياه الجوفية بشكلٍ مقلق، نتيجة الاستغلال المفرط، خاصة في القطاع الفلاحي الذي يستهلك حوالي %80 من الموارد المائية المتاحة.

إلى جانب ذلك، يسجّل المغرب ارتفاعا ملحوظا في الطلب على الماء، نتيجة النمو الديمغرافي والاقتصادي، وتطور الأنشطة الفلاحية والصناعية. كما تعاني العديد من الموارد المائية من التلوث، نتيجة الأنشطة البشرية، مثل الصرف الصحي غير المعالج، والنفايات الصناعية، والاستعمال المفرط للأسمدة والمبيدات في المناطق الزراعية.

تحولات تشريعية في إدارة الموارد المائية من قانون 95.10 إلى قانون 36.15

من أجل التصدي لهذه التحدّيات، أصدر المشرع المغربي قانون الماء رقم 95.10، الذي شكل خطوة مهمة في تنظيم قطاع الماء، إلا أنه لم يسلم من بعض النقائص، منها غموض بعض المصطلحات مثل “الصب المباشر وغير المباشر”، وضعف بعض المقتضيات المتعلقة بتثمين المياه غير التقليدية (تحلية مياه البحر، معالجة المياه المالحة، جمع مياه الأمطار) التي تحتاج إلى مزيد من التوضيح والتفعيل.

إضافة إلى ذلك، تعاني بعض المساطر المتعلقة بتدبير الملك العام المائي، مثل “الترخيص بالحفر والترخيص بالجلب”، من التعقيد، مما يعيق الاستثمار في قطاع الماء.

ولمعالجة هذه النقائص، سن المشرع المغربي قانون الماء الجديد رقم 36.15، الذي تضمن العديد من المستجدات. أهمها تحديد مفهوم الملك العام المائي بشكل دقيق، وشمل ذلك المياه السطحية والجوفية، والأراضي المغمورة بهذه المياه، بالإضافة إلى المنشآت المائية كالسدود وقنوات الري ومحطات الضخ. كما حدد القانون حقوق الانتفاع بالملك العام المائي، وأخضعها للترخيص أو التصريح أو الامتياز.

أضاف نفس القانون كذلك مقتضيات ترتبط بتحلية مياه البحر، حيث وضع إطارا قانونيا ومؤسساتيا لإنجاز مشاريع تحلية مياه البحر مع مراعاة التشريعات البيئية. كما عزز دور شرطة المياه في مراقبة تنفيذ القانون، وزودها بصلاحيات إضافية شبيه بإيداع المحجوزات بالمحجز، وتحرير المحاضر وفق الشكليات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية. كما رفع القانون من العقوبات الزجرية ضد المخالفين، حيث تتراوح الغرامات المالية بين 6000 و25000 درهم، وعقوبة الحبس من شهر إلى 3 أشهر.

وقد أقر القانون كذلك آليات بديلة لفض النزاعات، بما في ذلك إمكانية الصلح في المنازعات المتعلقة بالمياه، وذلك بهدف تسريع البت فيها وتخفيف العبء على مؤسسة القضاء.

الإطار المؤسسي للمياه تعدد الفاعلين وأزمة التنسيق

على الرغم من الجهود المبذولة لتطوير الإطار القانوني، إلا أن التحدي لا يزال قائما على مستوى الإطار المؤسّساتي، الذي يعاني من تعدد المتدخلين وتداخل الاختصاصات. تشارك العديد من الجهات الحكومية والمؤسسات في تدبير قطاع الماء، منها:

وزارة التجهيز والماء: تتولى إعداد وتنفيذ سياسة الحكومة في مجال الماء، وتخطيط وتعبئة الموارد المائية، وإدارة شؤونها، والمحافظة عليها، وتهيئة المنشآت الكبرى.

وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة: تعنى بحماية البيئة بصفة عامة، وبيئة الموارد المائية على وجه الخصوص، وتشارك في إعداد البرامج والمشاريع المتعلقة بحماية البيئة المائية.

وزارة الفلاحة: تعنى بعقلنة استعمال الموارد المائية في القطاع الفلاحي، وتشارك في إعداد وتنفيذ برامج اقتصاد الماء.

وزارة الداخلية: تشارك في إعداد المخططات التوجيهية للتهيئة المندمجة للأحواض المائية، وتساهم في عمل لجان الماء.

إلا أن هذا التعدد في المتدخلين قد أدى إلى تداخل الاختصاصات وضعف التنسيق بينها، مما أثر سلبا على فعالية تدبير الموارد المائية. كما يعاني المجلس الأعلى للماء والمناخ من عدم تفعيل دوره، رغم أنه ملزم بالاجتماع سنويا لمناقشة السياسة المائية، إلا أنه لم يجتمع إلا مرة واحدة منذ عام 1995، بالرغم من أهمية دوره في صياغة التوجهات العامة للسياسة المائية.

هذا إلى جانب محدودية دور شرطة المياه، التي تواجه صعوبات عديدة تحد من فاعليتها، من قبيل نقص الإمكانيات المادية واللوجيستيكية، وضعف التنسيق بين مختلف الفرق التابعة لها، وصعوبات إجرائية ترتبط بتحديد هوية المخالفين ومتابعة المحاضر.

التصدي للتحديات عبر مقاربة تشاركية متكاملة

لمواجهة لهذه التحديات، يتطلب الأمر تبني مقاربة تشاركية تشمل تطوير الإطار القانوني من خلال العمل على إصدار نصوص تطبيقية واضحة ودقيقة لقانون الماء الجديد، وتبسيط المساطر الإدارية. بالإضافة إلى تعزيز التنسيق بين مختلف المتدخلين عبر إنشاء آليات فعالة للتنسيق بين الجهات الحكومية والمؤسسات المتدخلة في قطاع الماء، خاصة على المستوى الجهوي والمحلي مثل وكالات الأحواض المائية، لجان الماء، والمكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي.

يجب أيضا تفعيل دور المجالس الاستشارية، كالمجلس الأعلى للماء والمناخ، وجعله إطارا فعالا للتشاور والتوجيه، مع توسيع تركيبته ليشمل ممثلين عن المجتمع المدني. علاوة على ذلك، يتطلب التصدي للتحديات دعم البحث العلمي والتكوين من خلال الاستثمار في تطوير تقنيات جديدة في مجال تدبير الموارد المائية، وتحلية مياه البحر، ومعالجة المياه العادمة، وتأهيل الكفاءات.

من الضروري كذلك ترسيخ التربية والمواطنة البيئية عبر تكثيف برامج التوعية والتحسيس بأهمية المحافظة على الموروث المائي، وإدماج التربية البيئية في المناهج التعليمية، وتشجيع وسائل الإعلام على نشر الوعي بأهمية الموارد المائية. بالإضافة إلى إشراك المجتمع المدني، من خلال تفعيل دور الجمعيات البيئية في مجال التوعية والتحسيس، ومراقبة تنفيذ السياسات المائية، وتشجيع المبادرات المحلية في مجال ترشيد استهلاك الماء.

إجمالا نوجه رأينا إلى أن الموارد المائية اليوم تشكل ثروة وطنية حيوية، ويعد الحفاظ عليها مسؤولية جماعية. وبتضافر جهود جميع الفاعلين، وتبني مقاربة شاملة تعتمد على التخطيط الاستراتيجي، والتدبير المندمج، والحكامة الرشيدة، ويمكن للمغرب أن يحقق الأمن المائي، ويضمن استدامة موارده المائية للأجيال القادمة.

https://anbaaexpress.ma/vnj4a

ياسين كحلي

مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى