آراء
أخر الأخبار

بين الطاعة والاتباع.. وهم السلفية في تقديس النبي بدل فهم الرسالة

القرآن الكريم حين يتحدث عن الطاعة، لا يطلب طاعة "النبي" بصفته الشخصية أو البشرية، بل يربط الطاعة بطاعة "الرسول"؛ أي حين يكون النبي في مقام التبليغ عن الله، لا في مقام التصرف البشري أو الاجتهاد الشخصي..

في خضم النقاشات المتجددة حول طبيعة العلاقة بين المسلم والرسول، تعود إلى الواجهة إشكالية مركزية ظلت لعقود حجر الزاوية في البناء السلفي التقليدي: هل المطلوب من المسلم تقليد النبي في أقواله وأفعاله وسلوكياته الظرفية، أم اتباع الرسالة التي جاء بها؟ يبدو السؤال بسيطًا، لكنه يكشف هشاشة منطق تم ترسيخه طويلًا حتى أصبح بمنزلة المسلمة الدينية التي لا تقبل الجدل.

الخطاب السلفي، بكل أطيافه، بنى تصوره عن التدين على فكرة أن النبي محمد ﷺ ليس فقط رسولًا مبلّغًا للوحي، بل هو في ذاته مصدرٌ للتشريع، وأن أفعاله الشخصية، بما فيها ما لم يُنزل فيه وحي، تعتبر مرجعًا دينيًا يُقتدى به.

وهكذا نجد أن تفاصيل حياة النبي اليومية – كيف كان يأكل، كيف ينام، كيف يمشي، كيف يلبس – أصبحت جميعها جزءًا من «السنة» الملزمة، بل وأحيانًا معيارًا لإيمان المسلم من عدمه. غير أن هذا التصور، عند التمحيص، لا يجد له ما يسنده في القرآن، بل يخالفه في الجوهر والمنهج.

القرآن الكريم حين يتحدث عن الطاعة، لا يطلب طاعة “النبي” بصفته الشخصية أو البشرية، بل يربط الطاعة بطاعة “الرسول”؛ أي حين يكون النبي في مقام التبليغ عن الله، لا في مقام التصرف البشري أو الاجتهاد الشخصي.

ولهذا ترد الآيات بصيغة: “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول”، و”من يطع الرسول فقد أطاع الله”، وليس فيها أي دعوة لطاعة “محمد” كفرد أو نبي في ذاته، وإنما طاعة للرسالة التي يحملها، لما تمثله من وحي إلهي. بل إن تكرار الأمر بطاعة “الرسول” يؤكد أن المطلوب هو الاستجابة لما يُبلغ من عند الله، لا ما يصدر عنه من اجتهادات أو سلوكيات بشرية.

هذا التمييز الدقيق، والذي يتناساه التيار السلفي عمدًا أو غفلة، يفضي إلى نتيجة جوهرية: ليس كل ما فعله أو قاله النبي ملزمًا للمؤمنين، وإنما فقط ما بلّغه عن الله. فالنبي في نهاية المطاف بشر، يعيش في زمان ومكان محددين، ويخضع لما تخضع له بيئته من أعراف وعلاقات وسياقات.

وهذا ما أقر به هو نفسه حين قال: “إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر”. بهذا التصريح، فرّق النبي بين مقام التبليغ ومقام الرأي، بين الوحي والرؤية الشخصية، بين ما يُلزم وما لا يُلزم.

لكن السلفية لم تميز. جمعت بين كل ما صدر عن النبي في سلة واحدة، واعتبرت كلها سننًا شرعية يُقتدى بها، فصاروا يقتفون أثره في أدق التفاصيل اليومية، وكأنهم بصدد تمثيل متحف ديني حيّ، لا فهم مشروع رسالي حيّ.

النتيجة أن التدين السلفي صار قائمًا على تقليد الأشكال لا إدراك المعاني، على إعادة تمثيل الماضي بدل استلهام روحه. في هذا التصور، لا يعود الإسلام دعوة للعدل، والرحمة، والحرية، وتحرير الإنسان من الجهل والاستبداد، بل يصبح إعادة إنتاج لشكل القرن السابع الميلادي بكل تفاصيله، باعتباره النموذج الأعلى المطلق.

الخطير في هذا المنطق، أنه لا يكتفي بالتقليد الشكلي، بل يرفعه إلى مرتبة الفرض والواجب، ويحوّل مخالفة عادات النبي – التي لم يُنزل فيها وحي – إلى بدع ومظاهر تهاون في الدين. وهكذا تم تضييق معنى الطاعة، واختزال الدين في جملة من المظاهر، على حساب روحه ومقاصده الكبرى. فهل الدين هو شكل الجبة، وطريقة الجلوس، ونوع الطعام، أم هو قيم الحق والخير والعدل؟

القرآن يوجه المؤمن إلى طاعة “الرسول” بما هو حامل للرسالة، أي طاعة لما يُتلى من وحيه، وليس لتفاصيل حياته الشخصية. فحين يقول: “وما على الرسول إلا البلاغ المبين”، أو “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي”، فإنه يرسم حدود الدور النبوي بوضوح: لا تشريع من ذات النبي، ولا طاعة إلا لما يبلغ عن الله. كل ما سوى ذلك، يُؤخذ فيه بالرأي، والحكمة، والاجتهاد، والظرف، وليس بالإلزام والتقديس.

إن العودة إلى القرآن ليست نداءً ليبراليًا أو دعوة لتجاوز السنة النبوية كما يُتهم من يطرح مثل هذه التساؤلات، بل هي محاولة لتحرير الدين من الكهنوت، وإعادة الاعتبار للعقل في فهم النص. ما نطالب به ليس رفضًا للرسول، بل تفريقًا بين مقام الرسالة ومقام الشخص، بين البلاغ والوضع البشري، بين المطلق والتاريخي.

آن الأوان أن نعيد النظر في منطق “الاتباع” الذي تروّج له السلفية، لا لرفضه، بل لفهمه في ضوء النص المؤسس: القرآن الكريم. فالدين، كما نفهمه، ليس تقليدًا أعمى، بل إعمال عقل، وتحقيق مقاصد، وحركة نحو الإنسان وكرامته. والنبي، في هذا الأفق، هو دليل إلى الله، لا إلى نفسه؛ واتباعه يعني الانخراط في مشروعه الرسالي لا نسخ هيئته وسلوكياته التي هي – في النهاية – جزء من بشريته، لا من وحيه.

https://anbaaexpress.ma/o7z07

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى