حين تتقاطع الجغرافيا السياسية بالخريطة الحزبية، يصبح الداخل انعكاسا مرآويا لصراع الخارج. وهكذا تبدو السلطة الإسبانية اليوم، كمن يسير في متاهة بلا بوصلات، تحاصره الفضائح من جهة، والارتدادات الإقليمية من جهة أخرى، بينما يتوارى منطق المؤسسات خلف توازنات دقيقة بين البقاء الأخلاقي والانبطاح البراغماتي.
ففي لحظة بدا فيها أن الاشتراكيين بقيادة بيدرو سانشيز يسعون إلى ترميم الثقة وسط دوامة من شبهات الفساد التي مست مسؤولين نافذين في الحزب، تتفجر موجة تعاطف دولي جديد مع غزة، وتبعث من جديد رمزية القضية الفلسطينية في الوعي الجماهيري الإسباني، تمامًا كما يتعمق الرهان على الشراكة الاستراتيجية مع المغرب، في ملف الصحراء الذي تحول إلى مرآة تعكس تموضع مدريد بين العقلانية السياسية وضغوط الإرث الاستعماري.
في رسالته إلى قواعد الحزب، لا يتحدث سانشيز فقط عن التوبة السياسية، بل عن محاولة لإنقاذ سردية حزبه من السقوط الأخلاقي. فالرجل، الذي كان أول زعيم غربي يعلن من قلب البرلمان أن العدوان الإسرائيلي على غزة جريمة ضد الإنسانية، لم يكن يعبر فقط عن موقف أخلاقي، بل عن توازن دقيق بين سياسة داخلية محاصرة وشرعية خارجية مأزومة. فالعدوان على غزة أعاد تشكيل الاصطفاف السياسي داخل الشارع الإسباني، في وقت أصبحت فيه القضية الفلسطينية اختبارا حقيقيا للمواقف، لا مجرد ورقة أيديولوجية..
في هذا السياق، وجد سانشيز نفسه في قلب صراع مزدوج.. داخلي يخص شرعية السلطة، وخارجي يحدد تموقعه داخل النظام الدولي الجديد، حيث بات الاصطفاف مع المقاومة الشعبية معيارًا تتقاطع فيه المبادئ مع الحسابات الانتخابية.
أما الرباط، فلم تعد مجرد عاصمة مجاورة في الجوار الجغرافي، بل أصبحت عقدة استراتيجية في خرائط الأمن والطاقة والهجرة، ما جعل ملف الصحراء يتحول من ملف ديبلوماسي تقليدي إلى اختبار لنوايا مدريد الحقيقية.
حين اعترف سانشيز بمبادرة الحكم الذاتي كخيار جدي، لم يكن فقط يعيد رسم العلاقة الثنائية مع المغرب، بل كان يعيد توجيه بوصلته الخارجية نحو الجنوب، حيث تتكثف المصالح وتتفكك الأوهام… غير أن هذا التوجه أثار عاصفة داخلية من الرفض، غذتها المعارضة اليمينية التي قرأت الخطوة كتنازل غير مبرر، ما أضاف إلى حسابات الداخل تعقيدًا جديدًا.
المفارقة أن الحزب الشعبي الذي يمثل رأس المعارضة الإسبانية، لا يقدم بديلا جذريا بقدر ما يعيد إنتاج البنية المحافظة للنظام السياسي الإسباني.
وبينما يهاجم الاشتراكيين تحت يافطة الأخلاق، يفتقر لطرح واضح حول غزة، أو رؤية استراتيجية حقيقية تجاه المغرب. بهذا المعنى، تصبح المعارضة أكثر اهتمامًا بإضعاف الشرعية من تقديم مشروع بديل.
وبين حكومة تحاصرها ملفات الفساد وتراهن على رمزية التضامن مع غزة ومشروع الشراكة مع الرباط، ومعارضة ضبابية دون أن تقترح مستقبلا، تجد إسبانيا نفسها على تخوم مفترق طرق.
إن الصراع داخل السلطة الإسبانية لم يعد معزولا عن التحولات الإقليمية. من غزة التي تفضح نفاق المواقف، إلى الرباط التي تفرض على مدريد موازنة دقيقة بين التاريخ والمصالح، ترسم السياسة الخارجية معالم الداخل، وتعيد تشكيل الاصطفاف الحزبي في بلد يشهد تجاذبات صامتة حول هوية الدولة، موقعها في العالم، وشكل علاقتها بجنوب المتوسط.
إننا أمام لحظة تاريخية يتصارع فيها الماضي الاستعماري مع المستقبل السياسي، وتتقاطع فيها المواقف من قضايا العرب مع إعادة تشكيل الوعي السياسي الإسباني.
من هنا، لا يمكن فهم مدريد دون الرباط، ولا قراءة سانشيز دون إسقاط مواقفه من فلسطين. ولأن الخارج بات يلعب دور المشكل للبنية، يصبح الداخل مرآة لانكسارات الجغرافيا.
وهكذا، ومن مدريد إلى غزة والرباط، تكتب السياسة الإسبانية فصلاً جديدا من فصول الصراع، صراع لا تحسمه نتائج الانتخابات فقط، بل تحسمه مواقف تتجاوز الدعاية، وتلامس جوهر العدالة.
أما السلطة، فإما أن تعيد تعريف نفسها بوصفها تعبيرا عن أخلاق السياسة، أو أن تستسلم للعبة التوازنات إلى أن تنهار على وقع الخارج المتقلب.