أتقن المغول فن الحرب الصاعقة في ثلاث صور (القوات المحمولة) واستخدام (الدروع البشرية) والحرب (البكتريولوجية) وكانت الثالثة أشدها تدميراً أفضت في النهاية الى افناء ربع البشرية يومها.
ففي حصار أحد القلاع في القرم عام 1347 م التي تحصن فيها غزاة من أهل البندقية عمد التتار الى رمي جثث القتلى المصابين بالطاعون بالمنجنيق على خصومهم المحاصرين.
كان الرعب أشد من التحمل وهرب المذعورون ينقلون معهم على ظهور الجرذان (الموت الأسود) حيث تحركت السفن واستقبلت الموانيء في كل أوربا ومات يومها 25 مليون ضحية في اوربا لوحدها.
وفي هذا الصدد يكتب ابن خلدون عن الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وجاءها على غير موعد في منتصف المائة الثامنة الهجرية وهي ماتوافق عام 1348 م تلك التي تحدث عنها المؤرخ (عبد الله عنان) في موسوعته عن دولة الإندلس والمرابطين والموحدين وكذلك الخطط المصرية عن وضع مصر وكيف كان الموت يحصد أرواح الناس بحيث كادت مصر أن تهلك حتى جاء الحاكم بدر الجمالي وتحسنت الأحوال ويمكن مراجعة كامل الفصل التاريخي في موسوعة عنان.
وفي عام 1918 انفجرت ماعرف بـ (الانفلونزا أو الجريب الاسباني) وهو ليس اسبانيا بل جاء من أمريكا من مزرعة سماه فأصابت 700 مليون نسمة على امتداد قطر الأرض، حصد فيها منجل الموت 20 مليون انسان على الأقل فليس ثمة إحصائيات ورفعها البعض إلى خمسين مليون ضحية. منهم 550 ألفاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وخمسة ملايين في الهند.
فاجأت الجائحة الجنود الأوربيين المتحصنين في خنادقهم مع مطلع عام 1918 م في ظروف الحرب العالمية الأولى وهم يقتتلون بالسونكي والبارودة والرشاش، ولكنها حصدت في أربعة أشهر أكثر مما فعلت الحرب في أرواح البشر في أربع سنوات، ثم انسل الوباء كما جاء كالشبح.
فلم يعرف السبب ولم يكن الكائن (فيروس) معروفا أو مشخصا أو مرئيا فكان علينا الانتظار عشرات السنوات إلى حين اختراع المجهر الإلكتروني لرؤية أشواك الفيروس تطل علينا ضاحكة من سخفنا وقلة علمنا.
ومثلا فإن فيروس الأيدز حددوها حين كبروا مساحة الرؤية ثمانين ألف مرة ولم يكن هذا ممكنا بغير فهم علاقة طول الكائن مع طول الموجة المسلطة على الكائن لرؤيته.
وهكذا وبتطوير المجهر الالكتروني وتسليط موجة الالكترون الدقيقة أمكن أن نرى الأشياء مكبرة عشرات الالاف من المرات، واليوم نرى فيروس الكورونا رأي العين، وبالتالي وضع خطة للقضاء عليه، ولكن هل فيروس الكورونا هو الوحيد في الساحة؟ نحن اليوم نلج عالما من الدقة والضآلة والخبث مايجعلنا ندخل عالم الجن الفعلي فنفهم أننا لانفهم إلا قليلا من العالم المحيط بنا.
ولمعرفة تطور الطب في القرن العشرين علينا رؤيتها في أربع نماذج: وفيات الأطفال ومتوسط العمر ولجم الجوائح والانفجار المعرفي.
ففي عام 1905 م مع انتشار الكوليرا في هامبورغ كانت المقابر تبلع كل يوم ألف جثة، ومن كل طفل أتى الى العالم عام 1901 م خطف الموت في السنة الأولى منهم (20234) وهي إحصائيات ألمانية وألمانيا هي من قمم العلم العالمية، وكان متوسط عمر المرأة عام 1900 م 37 سنة والرجل 35 في الدول الصناعية، ليصبح عام 2000 م 88 سنة للأنثى و80 للرجل بمط العمر نصف قرن من الزمان لكليهما، مايعادل سدس عمر أهل الكهف بدون سبات عميق وكهف بارد يقلبون ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد!.
وفي عام 1900 م كان عدد المعمرين في ألمانيا الذين وصلوا حافة المائة عام لايتجاوز 40 شخصاً ليقفز اليوم الى 7000 والتوقعات أن يصل الرقم عام 2050 م الى مائة وخمسين ألفاً؟ فتبارك اسم ربك ذي الجلال والأكرام.
وهذا يدعونا بدوره الى مقارنة عدد الأطباء في ألمانيا لذلك الوقت، ففي عام 1876 م بلغ عددهم في ألمانيا 334 معظمهم (ممارسون عامون) وارتفع الرقم عام 1900 م الى 2000 طبيباً؛ ليصبح عام 2000 م 130 ألفاً نصفهم من الاختصاصيين، مابين 38 فرع أساسي و22 تخصصاً فرعيا (SUBSPECIALITY) في أكثر من 4000 مشفى ومؤسسة طبية، مادفع ألمانيا إلى استقدامنا للخدمة فيها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
وأنا شخصيا دخلت ألمانيا في 13 يناير من عام 1975م حتى حدث الإشباع فاستغنوا عنا، والآن الدورة تعيد نفسها فيذهب ابن أخي الشاب ليعيد الدورة وتتغير ألمانيا.
وحاليا تتمتع ألمانيا بنظام شركات تأمين صحية تغطي 98% من السكان، في نظام محكم تدفع لليلة الواحدة في العناية المشددة 2500 يورو، ويكلفها المريض المزمن سنوياً مائة ألف يورو، ويبلغ مايصرف على الصحة سنوياً 500 مليار يورو مايعادل 10% من الانتاج القومي بأكثر من 50 مرة مما كان يصرف عام 1901 م، مقارنة بدول العالم الثالث التي تنفق معظم ميزانيتها على خردة السلاح، وتُقَصِّر عن تأمين اللقاحات الستة الأساسية لأشد الأمراض فتكاً من نموذج شلل الأطفال التي لاتكلف بمجموعها للفرد أكثر من دولار واحد.
وبالمناسبة فكندا عندها تغطية على مواطنيها بدون شركات تأمين مما أحدث إعاقة مخيفة للمعالجة؛ فلا يستفيد فعليا من النظام الطبي إلا من سقط في وهدة الحالات الحرجة؛ لرجل يختنق بالربو والكورونا، وامراة تعسرت ولادتها أو تنزف، وآخر ازرق من صدمة قلب، ورابع تكسرت عظامه فهو ينزف في حالة صدمة؛ ففي مثل هذه الحالات يشتغل النظام الصحي الكندي بكفاءة، وثمة مافيا تسيطر على السوق فتسمح لك بالهجرة ولا تسمح لك بممارسة مهنتك، مثلي أنا جراح الأوعية من ألمانيا المتفوقة، وينجح في الدخول إلى السوق أنصاف الأميين من سباك ونجار وحداد وكهربجي وحلاق وعتال وميكانيكي سيارة.
ونقول برافو لأولئك القاعدين فوق في مكاتب يلعبون فيها بالملايين. ويكدح في الأسفل أنصاف الأميين ممن ذكرنا. وهذا يفتح عيوننا على أن كندا ليست الجنة الموعودة كما يزينها البعض.