ضيفة هذا الحوار على أنباء إكسبريس وبشكل حصري، كاتبة وشاعرة إسبانية من ويلبا (Huelva) أرض الأساطير والجمال، وأرض دفين ابن حزم الأندلسي صاحب رائعة طوق الحمامة في الألفة والالاف.
ضيفتنا هي الشاعرة سيلبيا مارية راموس غاريدو للتحدث عن ديوانها الشعري Ceniza y Luz (الرماد والنور) وهي قصائد تحمل في طياتها روحا أندلسية ذات بعد سيكولوجي.
قصائدها تنساب إلى قلوب القراء كما ينساب الجدول الرقراق إلى الأرض الموات وتحيا وتنبت من كل زوج بهيج.
وعندما يعيش الألم في الظل، وعندما تصبح الحياة مظلمة، يصبح كل شيء رمادًا، ديوان مضيئ لسيلبيا راموس من خلال عيونها الزرقاء، التي تنظر إلينا في غلاف كتابها، لأنها تعرف أنها تتحدث إلينا منذ أن ولدنا جميعًا من الألم وقمنا بإعادة تجميع قطع أحجية الحياة.
الرماد والنور هو الكتاب الثاني في الإنتاج الشعري لسيلبيا راموس، بعد ديوانها الأول Poemas de la medianoche “قصائد منتصف الليل” (2018).
يرسم ديوان الرماد والنور مسارًا خطيًا ظاهريًا بين لحظتين وجوديتين، إحداهما مظلمة والأخرى مشرقة، تحرضان كما هي أقرب إلى الميتافيزيقيا الشعرية.
ويحتوي الرماد والنور على خصائص لغوية بمتحولات اجتماعية وجمالية مشتركة وبلغة رمزية سهلة وبسيطة وبدلالة محددة وواضحة، ويقوم التعبير لديها على التهويم الأدبي، ويعكس موضوعات ذاتية بعيدة عن الحاجات الانسانية العامة، خارجة عن نطاق التصنيف الأسلوبي النقدي ومستعصية على الخضوع لنموذج وضعي ثابت..
في هذه المقابلة ستتحدث الينا الشاعرة سيلبيا راموس عن ثنائية النور والظلام في ديوانها، وكذلك البعد السيكولوجي في قصائدها.. وغيرها من المحاور .
وإليكم نص الحوار
عند قراءتي للنصوص الشعرية لكتابك لامست فيها روحا نيتشويه و شعورا لفرانز كافكا وفي أعماق حروف قصائدك تلامس فيها كذلك روحا أندلسية مستلهمة من أنوار شعراء العصر الأندلسي، مامدى صحة هذا الوصف؟
صراحة أنا لست قريبًا جدًا من الأطروحات التي دافع عنها نيتشه، على الرغم من أن فلسفته هي دائمًا دعوة للتأمل في وجودنا. عندما ينتقد نيتشه عقلانية الإنسان الغربي المفرطة، أعتقد أنه ينتقد ما يعتبره ضعفا في الإنسان، أي الحاجة إلى مراكمة المعرفة التي تفسر كل شيء لممارسة السيطرة على الواقع، والتسلح بالفكر كوسيلة للدفاع والرفض في مواجهة الفوضى واللاعقلانية. بالنسبة لنيتشه، الإنسان غير قادر على قبول الفوضى والعيش دون يقين.
يتحدث الرماد والضوء عن عملية ينفتح فيها الكائن، الذي تم تجريده من يقينياته ومقاوماته الأنانية، على مساحة غير مؤكدة، ومن خلال هذه البوابة ندخل إلى تجربة الحزن.
تحدث هذه المبارزة على مستويات مختلفة، المستوى الأخير هو الحداد الذي يمثل الرحلة عبر وجود الفرد.
نتحدث في الرماد والنور عن الموت الرمزي وإمكانية الولادة من جديد في حالة جديدة من الوجود، وكيف أن تجربة الحداد تجعل من الممكن مواجهة ذلك الفضاء الداخلي الذي غالبًا ما يظل في الظل. لكي يحدث هذا اللقاء، من الضروري التخلي عن السيطرة والبحث عن اليقينيات المتأصلة في العقل.
في الرماد والنور إنهارت حواجز السيطرة وأصبح الكائن تحت رحمة حزنه. يؤدي الانتقال عبر الحالات الذاتية المختلفة إلى ولادة جديدة تظهر قوة الكائن وتصميمه بهذا المعنى سأقترب قليلاً من الروح النيتشوية.
أما فيما يتعلق بالشعور الكافكاوي، في الرماد والنور هناك لحظة تحول، بعض الإعدادات المادية هي المنزل والغرفة.
تتحدث قصائد مثل “أكتب” Escribo أو “المسيرة” La marcha أو” السماء الزرقاء Celeste” عن هذه المساحات. في “الرماد والنور” هناك شيء مقلق، لأن الكائن، في عملية تحوله، يواجه صراعا يشك فيه فيما إذا كان سيخرج منتصرا.
هناك شعور بالإحباط الوجودي وخيبة الأمل من عبثية الحياة وتعقيدها. يشعر بأنه محاصر في جو يخنقه ويريد الهروب منه. قصائد مثل “برمائي Anfibia” أو “خط الحياة” هي مثال على ذلك وستكون نشوة القصيدة التي تعكس ذروة التحول.
كتاب الرماد والنور
ويمكن القول أن هناك تشابها ما في الأجواء والمشاعر التي توصف في بعض روايات كافكا.
أما فيما يخص من الشق الثالث، من سؤالك فأظن أن قصائدي تحمل روحا أندلسية عربية، باعتباري من ويلبا وهي من المدن الاندلسية العريقة والتي يوجد فيها قبر إبن حزم الأندلسي، صاحب كتاب طوق الحمامة في الألفة والالاف، وكذلك أشعار إبن زيدون وولادة بنت المستكفي، وهذه المعطيات عرفتها بالصدفة وربما هذا راجع إلى التأثير الحضاري القوي الذي تركه العرب والمسلمون في شبه الجزيرة الإيبيرية.
ماهي المدرسة الشعرية التي أثرت عليك في بناء نصوص قصائدك في الرماد والنور؟
الرماد والنور هو كتاب يمجد قيمة التجربة الذاتية، تجربة الحزن على وجه التحديد تعبر قصائد Ceniza y Luz عن الشدة العاطفية، فهي مستوحاة من الألم والوحدة والحزن وخيبة الأمل والحب والعاطفة والموت والروحانية.
هناك حنين إلى “الجنة المفقودة” (لعصر مضى وحتى لحالة بدائية من الوجود) وأحد مصادر الإلهام الرئيسية هي الطبيعة. عادة ما يظهر الليل كمكان تنبض فيه القصيدة بالحياة ويصف الكتاب المناظر الطبيعية الداخلية في حالة خراب. في الرماد والضوء يتم إعطاء صوت غير العقلاني، وغير المفهوم، والشبيه بالحلم، والرائع، والخارق للطبيعة.
يحاول الموضوع الشعري إظهار عالمه الخاص، ويمكن القول أنه في انتقاله من الرماد إلى النور يجسد أحيانًا نوعًا من البطل الذي يقاتل من أجل التغلب على تفرده.
هناك رغبة في الهروب من واقع غير مُرضي وشوق عميق للحرية. كل ما ذكر أعلاه يندرج ضمن أيديولوجية وقيم الرومانسية. أما الأسلوب الرسمي فهو يمزج بين النثر الشعري، والقصائد القصيرة جداً مع القصائد الأطول، ويستفيد من الهايكو المقيد (سلالةٍ أدبيةٍ يابانية، وتعني المتعة والتسلية).
هل تكوينك كاخصائية نفسية أثر على مضمون قصائدك؟
لقد جعلتني تجربتي كاخصائية نفسية قريبة جدًا من داخل الناس، من عواطفهم وآلامهم ورغباتهم وأضوائهم وظلالهم. الشعر الذي أكتبه يحتوي حتماً على معرفة بالسلوك البشري وعمل النفس والعالم الداخلي للناس.
لديها معرفة عن نفسي وما أستكشفه في مسيرتي عبر العالم، كل ما نعرفه ونعرفه يؤثر بطريقة أو بأخرى على ما نكتبه: رؤيتنا للعالم، ولأنفسنا وللآخرين. لقد تغذى الرماد والنور بكل هذا.
ماهو البعد السيكولوجي لثنائية النور و الظلام في هذا العمل الشعري؟
ثنائية الرماد والنور التي أعطت الكتاب عنوانه، لها قراءة نفسية وميتافيزيقية وروحية. فيما يتعلق بالبعد النفسي، تمثل هذه الازدواجية في الأساس قوتين متعارضتين، متحدتين بشكل لا يمكن إصلاحه، ويجب أن تتعايشا في توازن دائم.
وقد أطلق عليهما من التحليل النفسي اسم دافع الحياة ودافع الموت. الأول يمثل قوة إبداعية تميل إلى الحفاظ على الذات والحياة. والثانية تمثل القوة المعاكسة التي تميل إلى فوضى الأحياء وتفككها.
في الرماد والضوء تتجلى هذه القوى المتعارضة في النضال الذي يستمر فيه الكائن لحل مبارزته وتحقيق التحول التحرري. في الرماد والنور يتم تحقيق هذا الانبعاث إلى الحياة.
حسنا لاحظت كذلك أنه من خلال هذه الثنائية ان هناك ضباب بين النور والظلام وكأنها باب مقدس يحتاج إلى مفتاح أفلاطوني للدخول إلى أغوار هذه الضبابية، هل يعتبر هذا الضباب إنعكاسا نفسيا لما يدور في النفس البشرية..؟
نعم، هناك لحظة “ضباب” على الطريق من الرماد إلى النور ففي الكتاب إسمه ممر ويتوافق مع الجزء الثاني. وهو المرحلة الوسيطة بين الجزء الأول وهو الرماد، والجزء الثالث وهو النور.
فتجربة الحزن هي عالمية طوال حياتنا نختبر حزنًا مختلفًا كأفراد وكمجتمعات وكإنسانية. في حاضرنا، أعتقد أننا كبشرية نمر بلحظة من الضباب الكثيف. إذا اضطررت إلى إجراء مقارنة بين العملية الموصوفة في الرماد والنور واللحظة التي نعيش فيها، فسأقول إننا في الممر.
كل ما علينا فعله هو أن نوجه أنظارنا إلى الصراعات والكوارث الإنسانية التي تحدث في جميع أنحاء العالم مع الحرب في غزة والحرب في أوكرانيا، والتوتر بين الكتل العالمية الكبرى، مثل روسيا والولايات المتحدة والصين، على سبيل المثال لا الحصر.
فهناك ضباب عظيم في العالم. النفوس التي تقف بوضوح في جانب الفناء والدمار والأرواح التي تقف في جانب الحفظ والحياة. وهناك أيضاً “الضباب” لأننا نشهد سقوط الهياكل القديمة وولادة هياكل جديدة وتغيرات وتقدم تكنولوجي يؤثر على طريقة علاقتنا ببيئتنا وبأنفسنا، وكل هذا بسرعة مذهلة وهذا يتطلب لنا للتكيف.
هناك ضباب وإرتباك في الإنسان على المستوى النفسي والميتافيزيقي والروحي. من وجهة نظر أفلاطونية، سيغادر جزء من البشرية الكهف ويدرك الواقع، وسيظل جزء من البشرية داخله، لا يرى سوى الظلال المسقطة على الحائط ويبقى في ذلك الظل دون السماح للضوء من الخارج بالاختراق..
ديوانك الأول قصائد منتصف الليل هل هو إمتداد شعري لديوانك الحالي؟
لم يتم تصور الرماد والضوء على أنهما استمرار لقصائد منتصف الليل، على الرغم من أنهما يشتركان في بعض الموضوعات والإعدادات، الرماد والنور هو كتاب وحدوي.
الأجزاء الثلاثة التي ينقسم إليها الكتاب، الرماد والممر والنور، مترابطة وهناك بدورها خيط مشترك يربط القصائد. المكانة التي تحتلها كل قصيدة في الكتاب تتبع ترتيبًا مدروسًا يستجيب لمحددات القصيدة.
كتاب قصائد منتصف الليل
في قصائد منتصف الليل لا يظهر هذا المفهوم الوحدوي، في الرماد والنور يتم تناول موضوع مركزي وفي منتصف الليل توجد كتل موضوعية مستقلة لا يتم التفكير فيها ككل. ومع ذلك، فإن كلا الكتابين مترابطان من حيث أنهما يعبران عن لحظات حيوية ووجودية ليست متباعدة في الزمن، وبهذا المعنى يمكننا أن نتحدث عن الاستمرارية.
مامدى حضور مدينتك ويلبا وهي مدينة موغلة في التاريخ، على قصائدك السابقة والحاضرة؟
مدينة ميلادي حاضرة جداً في قصائدي، مناظرها الطبيعية، محيطها، نورها، محفورة بعمق في مخيلتي وتظهر بشكل متكرر في شعري.
تجربتي مع الزمن مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمرور الوقت هناك، بطيئًا ومشبعًا بالجوهر، الوقت الذي يشجع على التأمل. النور في ويلبا ساطع ومكثف، وهذا هو النور الذي أضاء طفولتي ومراهقتي، وهي مراحل أساسية في تاريخي.
وباعتباري إسبانيًة وأندلسية، أشعر بالتراث الأندلسي وإعجابي بكل ما ساهمت به الثقافة العربية في العلوم والفلسفة والفن والروحانية في ذلك الوقت، وهو إرث لا يزال باقياً، ويزودنا بثروة هائلة.
وبينما كانت أوروبا غارقة في ظلام المعرفة، كانت الأندلس، وتحديداً مدينة قرطبة، من أهم مراكز الثقافة في أوروبا كلها.
وهذا شيء لا يجب أن ننساه، فهو جزء أساسي من ذاكرة إسبانيا الحضارية، وكان إبن حزم أحد الأمثلة العظيمة على الغنى العلمي لدى مثقفي الأندلس.
لم أقرأ كتابه “طوق الحمامة” لكنه من الكتب الثمينة التي عليّ أن أقوم بمطالعتها خلال الفترة القادمة، أنا مهتمة جدا لمعرفة عمق معالجته لموضوع أساسي في بعض قصائدي الشعرية مثل مفهوم فلسفة الحب.
_________________
قصديتين من ديوان “الرماد والنور ”
ترجمة: عبد الحي كريط
حوار هادئ يتجلى من خلال المحاور و المحاورة و بحكم معرفتي بهما شخصان هادئان لهما عمق في تناول قضايا تشغل بال الانسان منذ الأزل أسئلة وجودية تجيب عنها الشاعرة الأديبة المتألقة سيلبيا بأسئلة عميقة يطرحها صديقي ذ عبدالحي ، إجمالا حوار رائع و ماتع يجعلنا نتحفز لقراءة الكتابين و هو أمر يصعب معي لجهلي باللغة الإسبانية ، و لكن ما أطلبه من صديقي ذ عبدالحي تقريبنا من كل ذلك هو ترجمة احترافية منه لنعيش ما عاشه و استمتع به تحياتي لكما أيها العظيمين