تستفيق إسرائيل على “حادث سيء” جرى في سوريا، سقط نظام بشّار الأسد، ولم يخفِ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، امتعاضه مما اعتبره خطأ غير مقصود سمحت به إسرائيل. اعتبر أن الإطاحة بنظام الأسد، لم تكن في صالح إسرائيل. أضاف: “لم نحصل على الزهور عند سقوط نظام بشار الأسد، لكن لا بأس في هذا، لن نسمح باستخدام الأراضي السورية لمهاجمتنا”.
دافعت إسرائيل لدى الدوائر الأميركية بحيوية ضد إسقاط النظام السابق، ليس بالضرورة حبّا بالأسد وحاشيته، بل تعبيرا عن رضى عما هو معلوم وخشية من بديل مجهول.
وحين سقط المعلوم بدا المجهول غير مطمئن يَعِدّ سوريا بما يقلق إسرائيل. اعتبر نتنياهو أن سقوط نظام سوريا السابق أدى إلى “تغيير خريطة الشرق الأوسط”.
كان نظام الأسد، الأب والابن، يدرك جيدا أهميّة النظام السوري بالنسبة لإسرائيل. ضبط حدود سوريا الجنوبية، ومنع أي حراك معادٍ في الجولان على الرغم من شعبوية خطاب دمشق المفرط وتموضعها داخل محور إيران في المنطقة. نفّذت دمشق في لبنان منذ السبعينات ما عجزت إسرائيل عن تنفيذه. باشرت حربها ضد منظمة التحرير الفلسطينية قبل سنوات من اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982.
وحين انسحبت إسرائيل لاحقا، حاصرت قوات تابعة لدمشق الزعيم الفلسطينين، ياسر عرفات، في مدينة طرابلس وأهلكتها قصفا، حتى اضطر طراد فرنسي إلى التدخّل لإخلاء الزعيم الفلسطيني. بعدها حوّل نظام الأسد أنصار حركة “فتح” إلى “زمر عرفاتية” يطاردهم ويُسكنهم السجون لعقود.
حين بدأ الصراع الداخلي في سوريا عام 2011، عرف نظام دمشق أن مفتاح الحلّ في إسرائيل. خرج رامي مخلوف، ابن خال بشّار الاسد في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، في أيار (مايو) من ذلك العام، يحذر من انه “لن يكون هناك استقرار في اسرائيل اذا لم يكن هناك استقرار في سوريا”. كان في الأمر رسالة استنجاد فهتمها إسرائيل، وعملت لدى واشنطن على التحذير من مغبة سقوط “من نعرف” لصالح “من لا نعرف”.
لكن إسرائيل كانت تدرك أن النظام صار آيلا إلى سقوط. حتى أن وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، وفي كلمة ألقاها بمناسبة تسلّمه المنصب من سلفه يسرائيل كاتس، في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 (أي قبل شهر من سقوط النظام)، تقدم، من خارج أي سياق في حينه، بالدعوة إلى تعزير التحالف مع الأكراد والدروز في سوريا.
تمثّل تصريحات نتنياهو، الأحد، بشأن نزع السلاح من جنوب سوريا، وبقاء القوات الإسرائيلية هناك هذا العام، وتعهده بحماية الدروز من أي تهديد، بداية مرحلة جديدة تعلن فيها إسرائيل أنها لاعب أساسي في تحديد مستقبل سوريا وهويتها السياسية وتوجهاتها الاستراتيجية.
تأتي هذه المواقف مكمّلة لسياسة اعتمدتها بمواكبة سقوط النظام السابق بشنّ موجات قصف منهجي ضد مراكز تسليح للجيش السوري، والدفع بالقوات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، وباللعب الخبيث على وتر الأقليات في وقت يستعرّ فيه الجدل السوري بشأن وحدة البلد ومكوناته وطبيعة النظام السياسي المقبل وشكل الدستور العتيد. ويشكًل الموقف الإسرائيلي تحديّا للإدارة الجديدة في سوريا، برئاسة أحمد الشرع، لكنه يشكّل أيضا تحديّا للقوى العربية والإقليمية والدولية الداعمة للعهد الجديد والمصاحبة لمسار النهوض بسوريا.
في 16 كانون الثاني (يناير) الماضي، قال الشرع إن “إسرائيل تقدمت في المنطقة العازلة بذريعة وجود مليشيات إيرانية وهذا العذر لم يعد قائما بعد تحرير دمشق”. وأضاف: “أبلغنا الأطراف الدولية باحترام سوريا اتفاقية 1974 واستعدادها لاستقبال القوات الأممية وحمايتها”، لافتا إلى أن “الجميع مجمع على خطأ التقدم الإسرائيلي في سوريا ووجوب العودة إلى ما كانت عليه قبل التقدم الأخير”.
ويتّضح من مواقف الرئيس السوري تجنيب بلاده المواجهة واستظلاله بالشرعية الدولية. لكن إسرائيل تدرك أن مواقف دمشق ستتدرّج ولن تشبه سكون النظام السابق الذي كان فاقدا لأي شرعيات دولية.
والأرجح أن نتنياهو يستغل ضبابية موقف الإدارة الأميركية، برئاسة دونالد ترامب، بشأن التحوّلات السورية ليفرض أجندات إسرائيل على أي احتضان دولي عام لسوريا يحظى بدعم واشنطن.
كانت مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجموعة العربية ومجلس الأمن، قد تقاطعت، في مواقيت مختلفة، على المطالبة بقيام نظام سياسي يمثّل السوريين جميعا، ويضمن حقوق الإقليات، كشرط للتعامل مع التحوّل الجديد ورفع العقوبات عن سوريا.
لكن إسرائيل، التي تراقب تطوّر أداء الشرع وفريقه، وقرب تشكيل حكومة سورية جديدة موسعة شاملة التمثيل، تبادر إلى فرض نفسها على سوريا والمجتمع الدولي رقما صعبا في حاضر سوريا ومستقبلها وشريكا متقدما على طاولة التسويات بشأن سوريا.
بدا في مواقف نتنياهو ما يُشتم منه عداء للرعاية العربية التي تقودها السعودية للنظام الجديد، ورسالة إلى الرياض من بوابة دمشق بعد انتقادات وجّهها من واشنطن ضد شرط السعودية بإقامة دولة فلسطينية قبل أي علاقات سعودية مع إسرائيل.
تهكَّم نتنياهو حينها وطالب الرياض بإقامة تلك الدول فوق الأراضي السعودية. يستفيد نتنياهو من لحظة زهو دولية لطالما وعد بأنها مغيّرة للشرق الأوسط تتيح لإسرائيل فرض هذا التغيير على نظام سوريا الجديد.
الواضح أن إسرائيل تكره قيام نظام في سوريا يجول زعيمه في محافظات البلاد فيحظى باحتضان شعبي عارم، تستقبله العواصم، ويحمل خطابا لبلد يريده واحدا، رافضا الحديث عن أقليات، مروّجا لثقافة المواطنة.
ثم أن إسرائيل التي تعرف ضعف سوريا الراهن، تدرك أنه ضعف مؤقت، خصوصا إذا ما نجح الشرع في توحيد البلاد مجتمعا وتنوعاً وثقافة ونظام عيش. ولئن لدروز سوريا تاريخ وطني لا تنفع معه رسائل نتنياهو ولم يقصروا بالردّ المناسب، إلا أن الأخير يعوّل كثيرا على انشقاقات داخلية والنفخ بصعود الدويلات، ويستدرج واشنطن والعواصم الحليفة نحو شراكة لطموحات تفتّت سوريا وتقضي على خلاص السوريين.