
القوميتان الروسية والأوكراينية بين براديغمين:
سياقات ومداخل
مر علينا في المقالات السابقة سردية تلقي بمسؤولية الحرب على أوكراينا، فضلا عن الغرب وبشكل خاص، تلقي هذه الأطروحة باللائمة على لندن وواشنطن، ويشترك في هذه السردية متابعون روس وأمريكيون ومن قوميات مختلفة. بالمقابل نجد سردية مضادة، تتهم روسيا بغزو دولة سيدة، وتتسبب في أزمة أممية مفتوحة على جميع الاحتمالات.
سنحاول في هذا المقال أن نقرأ الأزمة، ولو بشكل مختزل، في سياقاتها المتعددة، ولا سيما في مظهرها الأيديولوجي بوصفه محركا للصراع ومعيقا للحوار، وبوصفه منتجا للأزمة وليس منتجا للحلول.
حول التحول الديموغرافي والهوياتي في البؤرة التي انفجر منها الصراع، دونباس (Donbass) التي تضم الإقليمين المنفصلين، والتي عاشت صراعا دمويا منذ عام 2014، وفي سياق، التحول الجيوسياسي تفيد المعطيات أن:
– تاريخ هذه المنطقة يبدأ مع القرن الثامن، وكان هذا الإقليم تحت حكم تتار القرم حلفاء العثمانيين في القرون التي تلت ثم سقطت المنطقة في يد الاميراطوريا الروسية؛
– نهاية القرن السابع عشر أصبحت منطقة دونباس منجمية (منجم الملح) ونشأت أول مدينة، وفي غمار الثورة الصناعية حدث حراك كبير في الاستثمار، وأصبحت منطقة دونباس محجا للنازحين والمهاجرين؛
– مع نهاية القرن التاسع عشر كان الأوكراينيون يمثلون أكثر من خمسين في المئة من ساكنة دونباس والروس حوالي ثلاثين في المئة وما تبقى قوميات أخرى؛
– مع بداية العصر السوفييتي حدث تطهير عرقي وفق بعض المصادر وتعاظم عدد الروس في دونباس. ومع المجاعة التي ضربت المنطقة في الثلاثينيات كان الأوكراينيون على رأس لائحة الضحايا في المنطقة؛
– مع نهاية الحرب الباردة واستقلال أوكراينا، عرفت منطقة دونباس أزمة اقتصادية وحدث إضراب ضد السلطة في كييف وحراك احتجاجي متعدد المطالب بما فيها اللسان والهوية، بهدف الخروج من السياسة المركزية إلى سياسة فيدرالية. وبعد تصلب كل الأطراف وانسداد قنوات الحوار وتسيد الثقافة الدوغمائية، نشأت حركة متطرفة موالية للروس؛
– من 1990 إلى 2014 حدث الانفجار بعد طغيان الصراع الأيديولوجي في دونباس والسلطة في كييف؛
– هناك نسبة مهمة من المسلمين في المنطقة تقدر بعشرين في المئة.
– أصبح الاتحاد الروسي بقيادة بوتن بمثابة الجبهة الخلفية لليمين الأوروبي. وهناك معطيات تفيد أن موسكو قدمت الدعم والرعاية للأحزاب والتيارات الأوروبية اليمينية المتطرفة المتشبعة بالفكر النازي. من حزب الحرية النمساوي وانتهاء بحزب البديل الألماني مرورا بفيكتور أوربان في المجر ومارين لوبان وإريك زمور في فرنسا وماتيو سلفيني في إيطاليا وغيرهم في هولندا واليونان واسبانيا، فإن بوتن وجد في تلك التشكّلات نفوذا داخل أوروبا ولم يبد أي رفض للنوستالجيا التي يبدونها بديماغوجية للنازية القديمة. وسبق أن نشرت الصحافة الأوروبية تقارير عن استفادة اليمين المتطرف الأوروبي من تمويلات روسية.
– أوكراينا لا تشذ عن الفضاء الأوروبي، وما “النازيون الجدد” في أوكراينا إلا ظاهرة مستنسخة من أوروبا وأميركا وبلدان غربية أخرى، وإن “النازيين الجدد” الذين يحاربهم بوتن لم ينجحوا في الدخول إلى البرلمان في انتخابات عام 2019 في أوكراينا، وبقي تأثيرهم هامشيا داخل أروقة السلطة في كييف.
– تعتبر ميليشيا “آزوف” التي أسسها الفاشي الأوكرايني أندري بيلتسكي أخطر تجليات اليمين القومي المتطرف في أوكراينا. غير أنها هامشية في تمثيلها، ولا تعبر عن الرأي العمومي الأوكرايني.
– لم يحدث أن أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن خلال فترة حكمه اليمين الأوروبي المتطرف، بل لم يتحفظ في علاقاته وعلاقات بلاده مع أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في أوروبا وأمريكا.
– وإذا كان اليمين الروسي هو جوهر الاتحاد وروحه السياسية، من حيث تجاوب القيادة مع النظرية: تشبع بوتن بنظرية ألكسندر دوغين؛ فإن اليمين المتطرف الأوكرايني يبدو مختلفا وغامضا من حيث علاقته بالطبقة السياسية الأوكراينية، حيث تفيد معطيات أوردها تيري ميسان، أن المرجعية الأيديولوجية التي يستند عليها المتطرفون في أوكراينا تجد خلفيتها الفلسفية لدى مُنظِّرها ومؤسسها ليو شتراوس. وليو شتراوس (1899 – 1973) فيلسوف أمريكي يهودي من أصل ألماني، يعتبره البعض الملهم لأيديولوجيا المحافظين الجدد التي تسربت إلى الحزب الجمهوري الأمريكي.
عاش ليو شتراوس في عزلة طويلة، وأمضى وقتا طويلا داخل المؤسسات الأكاديمية في أمريكا الشمالية، ورغم ذلك فقد كان الرجل يعلن بصراحة شديدة كراهيته للديموقراطيا والليبراليا على حد سواء. حاول أتباعه كثيرا إخفاء هذه الحقيقة، والحقيقة أن الصورة التي تم رسمها لشتراوس باعتباره قوميا أمريكيا يعشق الحرية، هي صورة ملفقة تماماً، فهي أبعد ما تكون عن الحقيقة، حسب آراء المطلعين، والمشكلة بالنسبة لأتباعه هي أنهم مضطرون للكذب، وهذا ليس خطأهم. فشتراوس نفسه كان يميل بقوة نحو السرية لأنه كان يؤمن بأن الحقيقة قاسية جدا بحيث لا يمكن لأي مجتمع أن يتحملها وأن أنصار الحقيقة سوف يتعرضون للاضطهاد من جانب المجتمع وبخاصة المجتمعات الليبرالية.
وتفيد هذه المعطيات أن شتراوس كان عدو أمريكا الخفي. وحسب العديد من الشّهادات، كوّن شتراوس فرقة صغيرة من التّلاميذ الأوفياء اللّذين لقّنهم دروساً شفهيّةً. فسّر شتراوس لتلاميذه أنّ الوسيلة الوحيدة لحماية اليهود من إبادة جديدة هي بتكوينهم لديكتاتورية تابعة لهم. واليهود الشتراوسيون، وفق تيري ميسان، لم يكونوا يمثّلون، على الإطلاق، لا اليهود الأمريكيين، ولا اليهود في بقية العالم.
بدأ الشّتراوسيّون، يضيف ميسان، بتشكيل فريقٍ سياسيٍّ قبل نصف قرن، عام 1972، وكانوا أعضاءً في فريق عمل السّيناتور الدّيموقراطي هنري “سكوب” جاكسون، خصوصاً إليوت أبرامز، ريتشارد بيرل، وبول ولفويتز. تعاونت هذه الفرقة بشكلٍ وثيقٍ مع مجموعة من الصّحافيّين التّروتسكيّين، اليهود ايضاً، اللّذين كانوا قد تعرّفوا على بعضهم بعضاً في كلّيّة نيو يورك، وعمِلوا في تحرير مجلّة كومنتاري. كان لقب هؤلاء الصّحافيّين هو “الأدباء النّيو يوركيّين”. كانت الفرقتَان (الشتراوسيّون والأدباء النّيو يوركيّين) على اتّصالٍ وثيقٍ بوكالة الإستخبارات المركزيّة، ولكن ايضاً بمؤسّسة راند، عبر ألبيرت وولستيتّر (الخبير الإستراتيجي) القريب من بيرل. الكثير من هؤلاء اليافعين تزوّجوا من بعضهم بعضاً، وتمكّنوا من تكوين مجموعة مُتراصّة تضمّ حوالي مائة شخص.
منذ عودة جو بايدن إلى البيت الأبيض هذه المرّة بصفته رئيساً للبلاد، يقول ميسان، يُمسك الشّتراوسيّون بِمقابض الحُكم: “جايك” سوليفان أصبح مُستشاراً للأمن القومي، بينما أصبح أنطوني بلينكن وزير الخارجية، وفيكتوريا نولاند نائبته، وكانت هذه الأخيرة قد توجّهت في أكتوبر 2021 إلى موسكو وهدّدت بسحق الإقتصاد الرّوسي في حال عدم امتثال القيادة لمطالبها. من هنا بدأت الأزمة الحالية يقول ميسان.
وبصرف النظر عن مقاربة تيري ميسان لعلاقة الشتراوسيين بجو بايدن، فإن السياسة الأمريكية وإن وفرت مساحة لهذا التيار الشتراوسي داخل البيت الأبيض فمن المؤكد أن أهدافها تختلف عن أهدافه، من حيث أن المشروع الأمريكي يمثل النسق الجيوسياسي الأممي في حين أن التيار الشتراوسي يمثل “نسقا نقيضا” للنسق الأممي من جهة، ومن جهة ثانية يمثل “نسقا مضادا” للنسق الجيوسياسي الروسي في نزعته الأوراسية المضادة للغرب وللنسق الجيوسياسي الأممي.
الاتحاد الروسي كنسق جيوسياسي تغلب عليه النزعة القومية بشحنتها الهوياتية الإثنية/الدينية يستمد قوته من ثقله التاريخي، الديمغرافي، العسكري والجغرافي فضلا عن سلاح الغاز والنفط، ما يحمله على النظر إلى أوكراينا وبلدان الجوار نظرة استخفاف. أما أوكراينا، وبالرغم من نزوعها إلى الغرب، فهي لا تختلف عن روسيا من حيث نزعتها القومية، الإثنية/الدينية. وإذا كانت روسيا معتدة بقوتها فإن أوكراينا متعدة بالغرب. الغرب يمثل نزعة قومية مدنية تقف على الطرف النقيض من روسيا وأوكراينا، وهو بالتالي يدير حربا بين بلدين تتحكم فيهما نفس النزعة القومية. الغرب إذن، ليس متموقعا في الحرب مع هذا الطرف ضد ذاك، فمن جهة لن يدخل في حرب دفاعا عن أوكراينا، لكن من جهة ثانية لن يسمح لروسيا بأي نصر.
في المقال القادم، وإستنادا على المعطيات أعلاه، سنحاول فهم أسباب الأزمة وخلفياتها الأيديولوجية في ضوء براديغما القومية الأيديولوجية وبراديغما القومية المدنية، ومن هناك سنحاول فهم أوجه التشابه والاختلاف بين هذه الأزمة وبين الأزمة المغاربية بخلفيتها القومية/الهوياتية والجيوسياسية.