آراءثقافة
أخر الأخبار

لغة الروح والمغتربين.. تأملات في اليوم العالمي للغة العربية

إن اللغة العربية، في جوهرها، ليست فقط منظومة قواعد وصرف ونحو، بل هي امتداد للروح الإنسانية في التعبير عن العاطفة والخوف والحب والغضب. كل كلمة عربية تحمل في نبرتها ذاك الانحناء الخاص الذي يجعل الحرف ينبض بالحياة..

في يوم مثل هذا، عندما تتسلل أصوات الحروف العربية إلى وجداننا، لا أستطيع إلا أن أتساءل عن مدى امتلاكنا الحقيقي للغتنا، تلك التي تحمل في طياتها روح حضارة امتدت آلاف السنين، وحكايات الشعوب التي كتبتها بأقلامها ونحتتها على الحجر، قبل أن يتحول الإهمال والاغتراب الفكري إلى مأزق متكرر بيننا.

اللغة العربية ليست مجرد كلمات تقال أو تكتب، بل هي وعي وجداني متجذر في التاريخ، نبع يتدفق منه الجمال والفكر، وسلاح ضد الانصهار في ثقافات مستوردة تسرق عقولنا ببطء، دون أن نشعر.

اليوم العالمي للغة العربية ليس مجرد يوم نحتفل به شعاراتيا في المدارس والجامعات، أو مناسبة تستغل من بعض النخب لتأكيد حضورها الإعلامي، بل هو تذكير بأن لغتنا هي مرآة ذاتنا.

ولكني أرى كثيرا من النخب العربية التي استلبها الاغتراب الفكري، ممن يعيشون بين المدن الأوروبية أو الولايات الأمريكية، وقد نسيوا أن اللغة ليست أداة للتفاخر، بل هي وعاء للفكر والوجدان، ومنارة لفهم الذات والجماعة.

هؤلاء، الذين يطبعون مقالاتهم بالاقتباسات الغربية، ويحاكون أساليب غيرهم في التعبير، لا يدركون أنهم يحرمون أجيالنا من الانغماس في بحر لغتهم العميق، ويزرعون فينا شعورا غريبا بالاغتراب داخل أوطاننا الفكرية قبل الجغرافية.

إن اللغة العربية، في جوهرها، ليست فقط منظومة قواعد وصرف ونحو، بل هي امتداد للروح الإنسانية في التعبير عن العاطفة والخوف والحب والغضب. كل كلمة عربية تحمل في نبرتها ذاك الانحناء الخاص الذي يجعل الحرف ينبض بالحياة.

ولعل أعظم ما يميزها ويمنحها بعدا غير قابل للمضاهاة هو أنها لغة القرآن المعجز، تلك المعجزة التي تحدت البشر منذ أربعة عشر قرنًا، وجعلت للكلمة العربية القدرة على التأثير في النفوس، وإحداث تحول في الفكر والوجدان، دون أي وساطة بشرية.

وعندما نقرأ الشعر الجاهلي، أو نصوص ابن خلدون، أو نصوص الحداثة العربية، ندرك أننا أمام فلسفة متكاملة للحياة، رؤية ميتافيزيقية للوجود، ونقد للذات والمجتمع، قبل أن تكون مجرد أسلوب بلاغي.

لكن، المؤسف حقا، أن هناك من النخب من يتعامل مع اللغة كما لو كانت مجرد أداة للتسويق الذاتي أو تزيين المقالات بحروف عربية، بينما جوهرها، تلك القدرة على الإحساس بالزمن والمكان، وعلى استحضار التاريخ، يبدو مهملا.

هؤلاء المغتربون فكريا لا يعرفون أن كل حرف عربي يختزن ذاكرة شعوبها، وأن كل تشكيل ونبرة صوت تحافظ على توازن بين العقل والوجدان. عندما يغيب هذا الحس، تتحول اللغة إلى جلد بلا روح، ونصوص بلا عمق، وأجيال بلا معرفة حقيقية بتاريخها ومجتمعها.

في هذا اليوم، علينا أن نتساءل بصدق..كم منا يقرأ بالعربية أكثر مما يكتب؟ كم منا يستمع إلى لغته كي يفهمها، لا ليظهر معرفته بها؟ وكم منا يستخدمها للتأمل في الذات والمجتمع، لا فقط كوسيلة لإرسال رسائل إلكترونية أو كتابة منشورات عابرة؟

اللغة العربية، في جوهرها، هي تجربة وجودية، ليست متاحة فقط للمتخصصين في الدراسات الأدبية، بل لكل من يسعى إلى فهم العالم من منظور حضاري يمتد من صحراء المغرب إلى جبال لبنان، ومن وادي النيل إلى سهول الخليج.

https://anbaaexpress.ma/5h67l

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى