آراءأفريقيامجتمع

كيان القبيلة.. بين العرف وسيادة المؤسسات تطلعاً لطي نزاع الصحراء

تصون القبيلة ذاتها والأنساب المتفرعة منها ووحدة صفها، و تحفظ لأفرادها مكانتهم في النسيج التاريخي والاجتماعي والتراثي للمجتمع الحساني الصحراوي

بقلم: محمد فاضل بقادة

كل أمم الارض خُلقت شعوبا و قبائل، فلا يخلوا حيز جغرافي في المعمورة من تواجد نمط قبلي كان او لا زال قائماً، فقد كانت مؤسسة القبيلة حاضرة في تدبير شؤون الجماعة او جماعات حسب التنوع الاثنوغرافي لمنطقة النفوذ، و لا زالت القبيلة الى اليوم مرجعا لشرعية دستورية و منفذا للسيادة و مصدرا لتقوية السلطة في بعض كيانات الدولة الحديثة ،في ما يطلق عليها بلدان العالم الثالث خاصة في اوطاننا الافريقية، بعربها و غيرها من أعراق القارة الغنية ارثا و تراثا و تاريخا و ثورة.

و كغيرها من أعراق القارة تعتبر مجتمعات بني حسان و “البيظان” قبائل ذوات أنماط عيش و ترحال و تدبير شؤون حرب و سلم، فهي قبائل بدوية بطبعها، تختلف أعراقها وأصولها، لكنها تتشابه إلى حد كبير في لبسها و ركوبها و أساسيات غذائها و لهجتها، شرقاً من غربي النيجر مرورا بأزواد و تمنراست و تيندوف حتى الساقية الحمراء غربا و من نهر السينغال جنوبا مرورا بصحراء تيرس حتى وادي نون شمالاً.

هو مجالها ترحالها و عرين اسودها الذي سادت فيه لقرون طوال، فلم تكن يوما تخضع لحكم سلطان من بني جلدتها، فكانت تسلم شأن ولائها لسلطان ذو شوكة و هيبة حماية لها من إغارة بعضها على بعض أو إنفراد الأقوى بالطغيان على الأضعف أو الأقل حيلة، فقد خضعت تلك المنطقة طوال قرون إلى حدود بداية القرن التاسع عشر، لحكم أو تبعية السلطان في الدول السعدية ثم الدولة العلوية، مع تمتعها بنوع من الاستقلالية في تدبير شؤونها الحياتية في إطار عرف حكم أمير القبيلة أو شيخها.

فقد كان المرجعية التي يحتكم إليها الخصوم فهو القضاء الساهر على فض النزاعات و الآمر الناهي المطاع حقنا للدماء فقد كان صاحب العمامة أو صاحب الطبل او معمر أكبر خيمة تتوسط الخيام “لفريك”..

إرتبطت القبيلة مع مؤسسة السلطان لقرون، كان لهذا الارتباط طابع المصلحة المشتركة، تضمن من خلاله القبيلة للسلطان نفوذاً أوسع للدولة وحماية للثغور من أطماع التوسع وحركية أسهل للسلع و التجار و حماية البضائع.

كما أن السلطان مرجعية دينية و روحية بحكم وحدة الدين و حتى المذهب، و هو سلطة سامية تصد ما لا تستطيع له القبيلة صداً، لكن الحال كله خضع للتغيير مع بداية القرن التاسع عشر، حيث طلعات التجار والمستكشفين الانجليز و الألمان والفرنسيين والإسبان، و التي سبقت مجيئ قواها الامبريالية إلى شمال افريقيا، كمرحلة ستغير تاريخنا و تصبح المقرر لمصائرنا.

من بين تلك الأراضين إقليم الصحراء، حيث قبائل عاشت لقرون في ترحال و نمط عيش و إندماج و تمازج و إنتشار، قبائل أثثت لنمط حياتي يخصها عن غيرها من ناطقي الحسانية في الساحل و الصحراء، فما هو وضع و مستقبل قبائل الصحراء في إطار خارطة الحلول بالاقليم المتنازع عليه ؟.

لقد حافظت مؤسسة القبيلة الصحراوية لقرون على أعراق و أنساب و كينونة المجتمع الصحراوي فرغم إحداث صراعات و إقتتال تذكرها الرواية الشفهية و تحفظها الذاكرة الجامعة بين بعض و ليس كل قبائل الصحراء.

إلا أنها لم تتجاوز حدود صراع الأخوة في ما بينهم فلم تنزل إلى مستوى يعيق حالة السلم السائدة و الاحترام البادية و أعراف حسن الجوار بينها لقرون، فقد كرست القبيلة في بعدها التراثي و الإنساني قيم التسامح و سمو كلمة كبار القوم و صون كرامة المرأة و إقراء الضيف و السعي في الصلح حقنا للدماء..

فمع تطورات العصر والمتغيرات التي إجتاحت العالم كله منذ بداية القرن العشرين بانتقال الانسان من العيش في كفالة العشيرة أو سلطة القبيلة إلى الخضوع لنظام المؤسسات و حكم الدولة،  كان المجتمع الصحراوي لا زال منغلقاً على ذاته إبان فترة الاستعمار الإسباني للإقليم.

فلم تُلزم مدريد الصحراويين بالاندماج في اسلوب عيش الإسبان، و لم تشركهم في نهج حكمها للإقليم إلا بعد بروز نخبة متعلمة و مثقفة ظهرت في وقت متقدم من حكم الإسبان للإقليم خلال ستينيات القرن الماضي، عرف  خلالها إنخراط الصحراويون في مؤسسة الحزب و الجمعية، لكن وهن الدولة الاسبانية في فترة سبعينات القرن الماضي داخليا أثر على قوتها و سلطتها و هيمنتها بالتالي على الإقليم.

فانسحبت على ضوء إتفاقية مع المملكة المغربية تدير من خلالها الاخيرة إقليم الصحراء في إطار إستكمال المغرب لوحدته الترابية، فقد كان لتوقيت خروج إسبانيا من الإقليم أثر على جنين سياسي غير مكتمل الأعضاء في إقليم الصحراء.

جنين غايته تصويب ولاء الصحراوي من القبيلة نحو إندماجه الى الحياة المدنية و إحلال المواطنة المؤسساتية بديلا عن الانتماء القبلي في اطار الممارسة السياسية، جنين لم يكتب له أن يلد من رحم فترة تواجد الاسبان بالاقليم، لكن ظروفاً اخرى حلت بعدها لكتابة تاريخ المنطقة من جديد.

كان للمملكة المغربية رأي مخالف للإسبان نوعا ما في معرض تعاطيها مع القبيلة في الصحراء بعد المسيرة الخضراء، فشيوخ القبائل الصحراوية ربطتهم و لا زالت علاقات مباشرة مع سدة الحكم في المملكة، فلهم من المكانة ما يحفظ للقبيلة هيبتها و تاريخها و رمزيتها، كما تجد مؤسسة القبيلة لدى المنتظم الأممي في إطار مسلسل إيجاد حل نهائي و سلمي لقضية الصحراء مكانة سامية، حيث تعتبرها سلطة تقليدية و مرجعية تاريخية، لها المكانة في الخارطة لأي حل سيكون مستقبلاً.

إن تأثير القبيلة بمجتمعنا الصحراوي في الألفية الثالثة على وضعنا السياسي و الاجتماعي، عرف تحوراً كبيراً جر القبيلة إلى وضع يكون فيه الفرد حائرًا بين ولاءه إلى مشروع المؤسسات الدستورية و بين ولاءه لتاريخ قبيلته مع بروز النزعة الفردانية و حالة التمرد على العادات و العرف في ظل تحول العالم من الانتماء بالأعراق الانتماء بالوطنية ثم إلى البراغماتية السياسية و الاقتصادية.

فأي مشروع سياسي ستقبل عليه المنطقة لن تكون القبيلة خارج معادلته أبداً، لكنها ستكون خاضعة لقوة تعلوها سقفا و لسيادة تفوقها سيطرة، و لتمرد جيل جديد متأثر برياح التغيير كما تأثرت من قبلهم أجيال “بقيم العصرنة” فهل القبيلة ككيان معنوي مؤهلة في المجتمع الصحراوي للتأقلم مع ذلك الوضع ؟.

و ما مصير الفردانية في مجتمع “اجْماعة” و نحن من يمثل مركز الصراع و موطن تقاطع مصالح المتنازعين على اقليم الصحراء ؟.

تصون القبيلة ذاتها و الأنساب المتفرعة منها ووحدة صفها، و تحفظ لأفرادها مكانتهم في النسيج التاريخي و الاجتماعي و التراثي للمجتمع الحساني الصحراوي، و هذا ما يميزها و يضفي صفة الرمزية عليها، فبإمكاننا ان غلّبنا قوة العقد الاجتماعي على نزعة الانتماء القبلي صياغة إطار مرجعي موحداً للصحراويين أقوى شرعية من مرجعية القبيلة، حيث الحق و الواجب و سيادة القانون على العرف دون تغييب التمثيل القبلي في شقه الاستشاري دون التقريري، لتُرجَّح بذلك كفة المواطنة على الانتماء القبلي.

ثم ننتقل لمرحلة الأخذ بالمبادئ الديمقراطية و الميروقراطية في الآن نفسه، حيث المزج بين الاستناد لصناديق الناخبين و التعيين المباشر اعتمادا على الكفاءة ،من خلال نموذج تدبير سياسي يخضع بشكل مباشر لسلطة المؤسسة الملكية و حكم ذاتي موسع يتسم بالشرعية حيث يجد صداً له في الأوساط الدولية المعنية بمراقبة الوضع بالاقليم و الطامحة لطي الملف بشكل سلمي.

فالحل هنا اعلاه يتسم بالواقعية لا الأحلام و الشعارات خدمة للسلم و ارتقاءً بوضعية الانسان و ضمان عيش كريم و كرامة و حرية ممارسة سياسية و تثمينا للمقدرات التاريخية و التراثية لأهل الصحراء و من بينها كينونة البعد الرمزي لمكون القبيلة.

هذا المشروع يحده سقف لا يمس من سيادة المغرب على الصحراء، و يمنح للصحراوي كفرد حرية تقرير مصيره داخل مقترح حكم ذاتي موسع يقرر عبرها آليات تدبير شأن اقليمه السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، و يصون لمؤسسة القبيلة مكانتها في النسيج السياسي و الاجتماعي الصحراوي.

فهل نحن كصحراويين مؤهلون للانتقال من وضعية سلطة القبائل إلى سلطة المؤسسات ؟.

* رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية لحركة صحراويون من اجل السلام

https://anbaaexpress.ma/4z3p3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى