آراءثقافة

قلّة الأدب.. في زمن العولمة والرأسمالية

بقلم : محمد الباسط 

كثيرون هم من يجهلون قيمة الأدب ومدى تأثيره على حياة الإنسان، بل هناك فئة عريضة ترى في الأدب عقبة كَأداءَ أمام اللحاق برَكب الحضارة.

تلكم الفئة نفسها التي تعترف بشكل ضمني ولا واع أن أغلبية أفكار العلماء مردها إلى نخبة من الأدباء الذين عالجوا في ثنايا متونهم بطريقة أو بأخرى جملة من القضايا المرتبطة بعلوم شتّى من قبيل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم المنطق. أولم يقل رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد يوما إن العلماء أبناء الأدباء؟ فَكَمْ من نظرية علمية تعود جذورها مسبقا إلى فكرة من أفكار الأدباء؟ هل ينكر أحد أن العلم انبثق للوهلة الأولى في أرض الأدب الخصبة؟

المُتَعَالمُون أو قرّاء العناوين

إنّ هذا الجدل الذي ارتبط أيما ارتباط بالأدب والعلم لجدل ضارب في القدم وقد غدا موضوعا مبتذلا. بيد أن من يشكل خطرا حقيقيا في الساحة الأدبية اليوم هم المتعالمون الذين يخوضون في الأدب دون حسيب ولا رقيب. تقدم هذه الفئة من أشباه المثقفين صورة شوْهاءَ عن الأدب.

فما أكثر أولئك الذين يؤوّلون فحوى الكتاب انطلاقا من عنوانه ضاربين عُرْضَ الحائط المقولة الفرنسية التي تقول : ” لا تحكم على الكتاب من غلافه ” .« Ne jugez pas un livre à sa couverture » وهم في ذلك يختزلون مئات الأسطر إنْ لم نقل الآلاف في عبارة قد تكون مضللة للقارئ.

فكم من كاتب أُسيء فَهْمُ مقصده لا لشيء إلا لأن متعالما ما حوَّر المعنى وصال وجال في النص دون أن يكلف نفسه عناء الغوص في أعماق النص واستجلاء أفكاره وفك شفراته.

إنّ هذا الصنف من المتعالمين هو من بخسّ قيمة الأدب، فعوض أن يُعْلي من شأنه أنزله إلى الدَّرْك الأسفل من سُلّم الانحطاط، فتضاءل الأدب الحقيقي وتوارى الأديب الحقيقي مفسحا المجال للأدب السوقي الرديء.

أَضفْ إلى ذلك أن تصرفا كهذا قد جعل الأديب مجلّلا بالعار بعدما كان في ما مضى مكلَّلا بالغار. إنها بكل بساطة »قلة الأدب«.

إنّ أقلّ ما يقال في حق الرعاع الذين شوهوا صورة الأدب إنهم قليلو الأدب. فالأديب الحق هو ذلكم الكاتِب الذي يضع نُصب عينيه تجويد العمل الأدبي والسمو به لا ذلكمُ الذي يَعُدّ الأدب محض تجارة مربحة يهدف من خلالها البحث عن الشهرة والاغتناء. إن زمن العولمة والتقانة كان بمثابة إعلان صريح عن ظاهرة اختفاء الأديب على غرار ظاهرة اختفاء المترجم التي تحدث عنها المترجم الأمريكي لورانس فينوتيLawrence Venuti .

فهل من سبيل إلى إعادة الاعتبار لمكانة الأديب الحقيقي؟ تساؤلٌ قد يطرحه كل فرد منا على نفسه إلاّ أن الإجابة عنه تتطلب تفعيل مجموعة من الشروط التي قد تعمل على صَوْن عالم الأدب وتدفع عنه كل المتطفلين والمُتَأَدّبين.

الأدبُ في مَهَبّ العولمة والرأسمالية

هل يحق لنا الحديث اليوم عن أفول الأدب في زمن قل فيه الأدب؟ أَولا يستطيع الأدب أن يصمد في زمن طغت عليه التفاهة بمختلف تلاوينها ؟ هل يستطيع الأديب الحقُّ الاستمرارَ في الإبداع في مجتمع تحكمه “مافيا الأدب”؟ كلها أسئلة سنخوض في بعضها ونترك للقارئ فرصة البحث عن إجابات لبعضها الآخر.

تقاس جودة منتج ما بمدى الإقبال عليه، فإن كان جيدا وحسنا تهافت الناس عليه وإن كان رديئا نفروا منه وهمشوه، وهذا بالذات ما ينطبق على الأدب.

لما كان الأدب في أوج قوته كان الكل يتهافت عليه تهافت الجائع المتلهف على مائدة الطعام. وهذا يذكرنا بما قاله هوراس Horace الشاعر الروماني الشهير حين غزت الرومانُ اليونانَ : ” اعكفوا على دراسة آداب اليونان صباحا واعكفوا عليها ليلا”. هكذا قول لا يصدر إلا عن شخص يعلم علم اليقين أن مفتاح النجاح والرقي لا يكمن فقط في العلوم وإنما يجد صداه أيضا في الأدب.

اليوم وفي عصر الآلة والمال، أصبح كل شيء موجها نحو غاية محددة كما أن الايديولوجيا بسطت هيمنتها على الكتابة الأدبية.

في القديم، كان الأديب يكتب بغية تحقيق غاية نبيلة مطلقا العنان لخياله الذي لا ينضب وساعيا نحو تثقيف النفوس وتشذيبها من شوائب الجهل. أما اليوم فقد صار الأدب أداة في يد من يوجهون العالم ويتحكمون في دواليب الثقافة والاقتصاد، فناذرا ما تصادف كتابة أدبية خالية من الايديولوجيا وهذا ما أدى إلى حدوث طفرة على مستوى السيرورة الأدبية بحيث انتقلنا مما يمكن أن نصطلح عليه ب “سُلطة الأدب” إلى ما يسمى ب “أدب السلطة”. وهكذا فقدت الكتابة الأدبية شكلها ورونقها الذي يميزها، فلا تكاد تميز بين الأسلوب الأدبي وأسلوب البيانات السياسية.

لا يختلف اثنان في أن الثورة الرقمية أو ما يسميها الكاتب الايطالي لوتشيانو فلوريدي بالثورة الرابعة قد غيرت مجرى التاريخ بإيجابياتها وسلبياتها. فإذا كانت إحدى إيجابياتها السماح بذلك التواصل المرن بين مختلف الثقافات والحضارات وتذليل صعوبات الواقع المعيش فإن سلبياتها تمتد إلى تخوم الأدب بمختلف تصنيفاته.

نكاد نجزم أن هاجس المتأدب اليوم هو الربح المادي من الكتابة، ولهذا تجده ينشر عشرات الكتب في السنة غير مكترث بالأسلوب الأدبي ومستحمرا نباهة القارئ في الكثير من الأحيان، إذ أن أقصى ما يهمه هو ثمن بيع الكتاب فعوض الاهتمام بلغة النص وعبقريتها يصب اهتمامه على واجهات الكتب التي يتفنن في اختيار ألوانها وأشكالها وكأن القارئ لا يهمه في ذلك إلا جاذبية الألوان.

والخطير في الأمر أيضا أن الغالبية القصوى من أشباه المثقفين تنسج أدبا يخدم بالدرجة الأولى أجندات أصحاب القرار من أحزاب سياسية ومذاهب دينية فتراهم تارة يمررون خطابا ايديولوجيا بغية الدفاع عن مبادئ هذا الحزب أو ذاك وتارة أخرى يوظفون الأدب لتصفية حسابات شخصية وطائفية.

فأين الأدب من كل هذا؟ صراحة هناك بعض الكتابات الأدبية التي تشعرك بالغثيان من القراءة الأولى فلا تنتهي من قراءة الصفحات الأولى حتى تجد نفسك قد شبعت من كثرة الترهات التي يعمل المتأدبون على تمريرها.

إن الأديب الحقيقي هو الذي يكتب بدم قلبه لا بحبر قلمه. يمكن أحيانا أن نشفع للكاتب ضعف أسلوبه في الكتابة لأنه لا يوجد كتاب مطبوعون بشكل مطلق ولكن ما لا يمكن التسامح معه وغض الطرف عنه هو تلكم المَطبّات والأخطاء الشائعة التي يرتكبها هؤلاء المُتَأدبون والتي تنم عن جهل للغة وقواعدها.

ولأن الكلمات بمثابة القالب الذي تصب فيه المعاني وجب إذن العناية بالأسلوب والتريث في تخير الكلمات والألفاظ لأن الأسلوب هو الرجل كما يقال أي إنه المرآة التي تعكس فرادة الكاتب وتفوقه عن أقرانه. إذا استمر الأمر على هذه الحال فإننا سنجد أنفسنا في قادم الأيام أمام كتابات تمجد التفاهة وتنزاح أيما انزياح عن أهداف الأدب السامية والنبيلة.

إن ريح الرأسمالية توشك على أن تعصف بالأدب الحقيقي ولا نبالغ إذا قلنا إن قطب الرحى في هيمنة المتأدبين التافهين على مفاصل الحياة يبدأ وينتهي بالميادين الأكاديمية إذْ غَدَتْ هذه الأخيرة رهينة التفاهة والتافهين.

لقد تنحى المثقف (المثقف العالمي بتعبير ميشيل فوكو) والحكيم والأديب الحقيقي، ليحل محلهم المتأدب والمتاجر في الأدب. إذن ما العمل؟ هل نصلي صلاة الغائب على الأدب؟ صحيح أننا بصدد إشكالية عويصة تخص الأدب بالدرجة الأولى إلا أنه بإمكاننا تجاوز هذه العقبات التي تقف سدا منيعا في وجه عودة الأدب إلى سابق عهده وهذا لن يتأتى إلا برفع الحصانة عن طبقة التافهين ومحاربتهم وممارسة الرقابة على كل من يتجرأ على الأدب. بتعبير الأديب الجزائري مالك بن نبي، علينا العمل جميعا على توجيه الثقافة والأخلاق.

لَعَلّ أول خطوة يجب البدء بها لإعادة القيمة إلى الأدب هي أن تنهج الدولة سياسة تروم عبرها تشجيع الانفتاح على الأدب بمختلف أصنافه وذلك بمراجعة شاملة للمناهج التربوية التي تتضمن مجموعة من النصوص.

أضف إلى ذلك تنظيم ورشات للكتابة الأدبية وتنمية حب المطالعة والقراءة لدى الناشئة. فعوض التركيز على ما قاله النقاد حول تلك النصوص حري بالمدرسين نهج طريقة يحببون من خلالها الأدب إلى قلوب الطلاب، هذا من جهة، أما من جهة أخرى، يتوجب على الوزارة الوصية على الثقافة التدخل عاجلا من أجل وضع حد للعشوائية التي صارت تتخبط فيها المنظومة التربوية والثقافية وذلك بفرض شروط صارمة على دور النشر وتدقيق الأعمال المحتمل نشرها حتّى لا نسقط في الركاكة.

هنا يظهر دور الناقد الذي يفترض به تقديم توجيهات للكتاب المبتدئين عوض الاكتفاء بالنقد من أجل النقد أو النقد من أجل الهدم فقط. إنّ دور الناقد يتعدى كونه مجرد راصد للأخطاء يتحين هفوات الكتاب وإنما يصبح الناقد في إطار هذا المشروع الإصلاحي للأدب ركيزة أساسية في تجويد الأعمال الأدبية.

ولبلوغ تلكم الغايات كان لزاما على كل المتدخلين في الأدب الانسلاخ من انتماءاتهم الإيديولوجية والحكم على جودة العمل الأدبي بكل حياد وموضوعية، فإن سارت الأمور على عكس ذلك فسيكون آنذاك الأدب مجرد حلبة لتصفية الحسابات بين من يعدون أنفسهم من زُمْرَة الأدباء.

لا يخفى على أحد أن المتحكمين في الاقتصاد هم أنفسهم المتحكمون في الثقافة ولكي نحافظ على مكانة الأدب وجب الفصل بين هذين المجالين بشكل تام وذلك بتدخل عاجل من الدولة من أجل سن قوانين زاجرة ضد كل من ينوي استحمار عقول القراء ونشر التفاهة والأدب السوقي الرث. ولتبرير تبعية الشرق الإسلامي والمغرب العربي للمركزية الغربية يمكننا أن نلاحظ بشكل لا يدع مجالا للشك ذلكم العقم الذي يعاني منه المشارقة والمغاربة على مستوى الإبداع الأدبي إذ أن أغلب هؤلاء يسعون إلى تحقيق ربح مادي من وراء كتاباتهم إلا من رحم الله.

فإذا أنت غربلت الإنتاجات الأدبية العربية لن يتبقى لك سوى نزر قليل من الكتابات التي تستحق النشر أما الباقي فمكانه في سلة المهملات.

https://anbaaexpress.ma/20iv1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى