بدأت الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى منطقة الخليج تلقي بظلالها على المشهد الإقليمي.
فالتهدئة المطلوبة أميركيًا قبيل الزيارة، تأتي تمهيدًا لتهيئة الأجواء بما يسمح بتقديم “إنجازات” بالطريقة التي يفضلها ترامب:
صفقات اقتصادية، وحلول نظرية لأزمات مزمنة. فالحديث عن إنهاء الحرب في غزة وفق المقاييس الأميركية، أو الهدنة مع الحوثيين بالتزامن مع مساعي تطويع إيران، يعكس في جوهره تهدئة مرحلية لا يمكن التعويل عليها كحلول مستدامة.
اللافت منذ بدء الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران أن الخطوات الأميركية تبدو مدفوعة بسياسة التلويح بالتصعيد، لكنها قد تصطدم بتعقيدات الواقع. فوقف الضربات الأميركية على الحوثيين لا يعني التهدئة، بل يشير إلى عودة جبهة اليمن لتصبح ضمن الحسابات الأمنية الإسرائيلية.
أما الحوار مع إيران حول وقف تخصيب اليورانيوم، فلا يقدم لإسرائيل ما تعتبره حلًا، بل قد يجعل من الأيام القادمة أكثر تعقيدًا في إطار المواجهة غير المعلنة مع طهران.
على الجبهة السورية، تطبّق إسرائيل استراتيجية الردع الانتقائي، أي إبقاء سورية ساحة مفتوحة تضرب فيها أي هدف تعتبره تهديدًا مستقبليًا. وهو ما يجعلها متفوقة استخباريًا داخل الأراضي السورية، ويعني مراقبة مستمرة، وبحثًا عن تحالفات داخلية على الأرض. وهذه سياسة يصعب على إسرائيل التخلي عنها في المستقبل القريب، ما يعني بقاء سورية مسرحًا للتحركات الإسرائيلية العسكرية والسياسية.
ومن شأن ذلك أن يزيد من هشاشة أمن المكونات السورية في ظل تزايد الهجمات، وعدم قدرة الإدارة المؤقتة على لعب دور الضامن الأمني والسياسي، كما ظهر جليًا في الأشهر الستة الماضية.
أما على جبهة غزة، فإن الحديث المتزايد عن مشروع أميركي لإدارة القطاع، يُعد ترجمة عملية لما طُرح سابقًا: قطاع منزوع السلاح، مجالس محلية من سكان غزة الأصليين، وإشراف شركات أمنية خاصة على المعابر والحدود، ولكن بتنسيق كامل مع الجانب الإسرائيلي. أي أن ما يُطرح الآن هو تنفيذ لما كانت تلح عليه إسرائيل خلال الشهور الماضية.
في الوقت الذي يجول فيه مبعوث ترامب في الشرق الأوسط متحدثًا عن “إنجازات” في الملف الإيراني قد تجنّب المنطقة خيار الحرب، يتحدث أيضًا عن توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية لتشمل دولًا تتجاوز الخليج مثل السعودية وقطر وعُمان، وتمتد إلى المشرق كلبنان وسورية، وحتى دول كبرى ذات أغلبية مسلمة مثل إندونيسيا. ومع ذلك، تظل التساؤلات قائمة بشأن جدوى هذه الاتفاقيات في ظل أزمات مستفحلة وجبهات مشتعلة وغياب حلول واقعية تمهّد لأي سلام حقيقي.
تتسيّد أولوية الأمن المشهد الإقليمي، وتسعى إسرائيل إلى استغلال كل دقيقة لإحداث تغيير جذري على كافة الجبهات التي تراها مهددة لأمنها، سواء كانت قريبة أو بعيدة. ولذلك فإن جدوى الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية اليوم مسألة يُعاد طرحها ليس فقط على الجانب العربي، بل على إسرائيل نفسها، بعكس ما كان عليه الحال قبل الحرب الأخيرة.
وهكذا، فإن الإدارة الأميركية، التي تسعى لتسويق إنجازات في صناعة السلام وتهيئة المنطقة لمرحلة جديدة، تجد نفسها أمام واقع ميداني يتناقض كليًا مع الأطروحات النظرية، ويجعل الجميع أسرى لمسار الأحداث المتسارعة على مختلف الجبهات، في ظل تنامي نفوذ اللاعبين الفاعلين على الأرض.
في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الأميركي لتدشين نقطة تحوّل جديدة في علاقة بلاده مع المنطقة وفتح مرحلة اقتصادية جديدة، قد تؤدي التفاعلات القائمة بين مشروع الهند-أوروبا المدعوم أميركيًا، وخط الحرير المدعوم صينيًا، إلى تفاقم الصراعات في آسيا، كما هو الحال في التوتر الهندي-الباكستاني.
ومن هنا، فإن أي حوار اقتصادي مستقبلي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تفاهمات صينية-أميركية توقف هذه الصراعات وتحوّل الأنظار نحو مسارات تنموية فعلية.
تعليق واحد