آراءمنوعات
أخر الأخبار

رحلة الاكتمال الروحي

في الوضع الطبيعي للنفس تمر سحب من الخوف والكراهية على الروح، وتزمجر أعاصير الغضب والحقد، وتصفر رياح العنف والعدوانية، وتهطل أمطار دموع الحزن، وتجلل النفس بغسق الاحباط والسلبية..

البدن يمرض والنفس كذلك تمرض مظاهر المرض العضوي تعبر عنها أجهزة البدن المختلفة مثل ارتفاع الحرارة والألم والسعال، وتظاهرات الاضطرابات النفسية تتجلى باضطراب الروح.

شكوى البدن خارجية واضحة وأحياناً تتظاهر بشكل صاعق مثل نفث الدم والصدمة (SHOCK ) (1) وشكوى النفس همس داخلي وفوضى في السلوك. صاحب المرض العضوي يتألم في الغالب فيسعى لطلب الطب والعلاج.

صاحب المرض النفسي لاينتبه الى إصابته في الغالب بل قد يتمادى في اتجاه الخلل بدون آليات تصحيح داخلية.

قولنج الكلية والحالب بسبب حصوة صغيرة تجعل المريضة تُنقل بحالة اسعافية الى المستشفى حالات الاحباط النفسي والكآبة تجعل مريضها يهرب من الناس جميعاً فضلاً عن الاطباء والقليل من ينتبه الى أنه أيضاً مريض بنوعية مختلفة من الأمراض.

يتقبل المجتمع الاصابات العضوية ولاتهز مركز صاحبها الاجتماعي ويصاب بها معظم الناس إن لم يكن كلهم في وقت من الأوقات فليس من انسان لم يتعرض لصداع أو أسهال أو ترفع حروري أو التهاب بشكل من الأشكال.

مريض المرض النفسي ينظر اليه المجتمع بعين الريبة وتلطخ سمعة صاحبها اجتماعياً، ولاتظهر الاصابة بها إلى سطح المجتمع الا حين تطورها واستفحالها لذا يظن الناس أن قلة نادرة هي التي تصاب بها، ولايستطيعون تصور أن كل انسان يصاب بها في وقت من الأوقات، في تظاهرات نوعية خاصة بها تماماً مثل الرشح والسعال وتستغرق أياماً ثم تعود الروح الى حالة الصفاء والاتزان كما في حالات الأمراض العضوية.

المجتمع تعارف على العطف والمساعدة لمريض كسرت ساقه فلم يعد يطأ بقدمه. ولكن نفس المجتمع ينظر إلى من يصاب بالعدوانية والانحراف الجنسي والاضطراب العاطفي أنه مجرم ومجنون يجب معاقبته والحذر منه.

عام العجائب والخرائط الانقلابية الثلاث في الأرض والسماء والجسد:

وكما يوجد وسائل لتعريف وتشخيص الأمراض العضوية فإن نفس الشيء يصدق على الأمراض النفسية مع الفارق النوعي . استطاع العلماء والمفكرون منذ قرابة خمسة قرون أن يخترقوا (تابو) الجسد فيشرحوه، كما فعل فيساليوس في القرن السادس عشر حينما خرج في عام 1543 م الذي عرف بــ (عام العجائب) بكتابه (تشريح الجسم) الذي اعتمد في كثير من معلوماته على كتاب (المنصوري) ذو المجلدات العشر للطبيب المسلم الرازي.

عام 1543 م أخذ اسم (عام العجائب) لأن ثلاث خرائط انقلابية جديدة من مستوى نوعي طُرحت للرأي العام الأوروبي فأحدثت فيه صدمة مزلزلة مازالت بصماتها حتى هذه الساعة في الخريطة الذهنية للعقلية الأوربية (2): الخريطة الأولى كانت في الأرض والثانية في السماء والثالثة في الجسد.

خريطة الأرض كانت مع كشوفات الجغرافيا حيث ضُمت ثلاث قارات جديدة، وأعيد رسم خارطة العالم من جديد، وكتبت الحضارة منذ ذلك الوقت من الشمال الى اليمين وكانت تكتب بالعكس.

وخارطة السماء أعيد هندستها على نحو متباين، فلم تعد الشمس تدور حول الكرة الأرضية بل العكس، ومعها انهارت مركزية الأرض وسقط معها تاج الانسان. كان ذلك في كتاب كوبرنيكوس الذي اكتحلت عينيه برؤية كتابه في سكرات الموت فقط.

وبعد أن انقلبت مفاهيم الانسان حول السماء التي تظله والأرض التي تقله؛ انتقل هذا الزلزال الى نفس جسد الانسان فشق الانسان جسده بيده وكان التشريح حراماً في أوروبا.

ومع فتح بوابة التشريح انهارت عقيدة الأقدمين القديمة حول الانسان، واكتشف رواد النهضة الكثير من السخف والخطأ العلمي الذي سار ألفي سنة خلف كلمات جالينوس وأبوقراط وأرسطو، الذين لم يعرفوا التشريح ولم ينزلوا الى أرض الواقع ليعرفوا طبيعة الجسم. كانت عقلية ابن رشد الجبارة القرآنية باعتماد (الواقع) مصدراً للمعرفة هي التي فَجَّرت العقل الأوربي.

القرآن اعتمد الواقع مصدراً للمعرفة (ينابيع المعرفة الثلاثة):  

لم يكن لمسيرة العقل الانسانية أن تنطلق لولا الاضافات الجديدة التي حررَّها العقل المسلم، من خلال تشبعه بالروح القرآنية. القرآن اعتمد الواقع والتاريخ مصدرين أساسيين للمعرفة.

فالإبل والسماء والجبال والأرض أمكنة ومواضع يجب أن يتأملها العقل بروية ليكتشفها من جديد (3) فالقرآن هنا يأمرنا بالسير في الأرض والالتفات الى الواقع فهو كتاب مفتوح للقراءة، وينطبق هذا على التاريخ كما يصدق على التجربة الباطنية أو الرياضة الروحية.

يقول الفيلسوف محمد إقبال في كتابه الموسوم (تجديد التفكير الديني ): (( غير أن رياضة الباطن ليست الا مصدرا واحدا من مصادر العلم والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ، وهذه الدعوة الى عالم الحس والاستشهاد به ومااقترن بها من إدراك لما يراه القرآن من أن الكون متغير في أصله متناه قابل للازدياد، كل ذلك انتهى بمفكري الاسلام الى مناقضة الفكر اليوناني بعد أن أقبلوا في باكورة حياتهم العقلية على دراسة آثاره في شغف شديد.

ذلك أنهم لم يفطنوا أول الأمر الى أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع هذه النظريات الفلسفية القديمة وبما أنهم كانوا قد وثقوا بفلاسفة اليونان ، أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية . وكان لابد من إخفاقهم في هذا السبيل لأن روح القرآن تتجلى فيها النظرة الواقعية ، على حين انحازت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرد وإغفال الواقع المحسوس ))(4)

جدلية الاستقراء والاستنباط ( INDUCTION) (DEDUCTION):

الفلسفة اليونانية كانت استنباطية (DEDUCTIVE) أو كما عرفت بالقياس الارسطاطالي أو المنطق الصوري.

والانقلاب العقلي الذي دشنته العقلية الاسلامية في التاريخ بتطوير قراءة الواقع بالفكر الاستقرائي (INDUCTIVE) (5) أي اعتماد الواقع مصدراً للمعرفة والواقع يضم الطبيعة والنفس وأحداث التاريخ.

الفكر الاستنباطي يضعى القاعدة الكبيرة ليقيس عليها، ومن هنا أخذت اسمها القياس، في حين أن طريقة الاستقراء نمت من الجيب الاسلامي الاندلسي على يد ابن رشد والمدرسة الاسلامية التحررية لتنتشر في أوربا بدءً من ايطاليا. الاستقراء هو قراءة الواقع وجمع الملاحظات المشتركة لاستخراج قانون عام ينتظم هذه الملاحظات المبعثرة.

فالاستنباط هو عملية التحليل العقلي من فوق لتحت، والاستقراء عملية معكوسة من تحت لفوق؛ فهي العملية المنطلقة من الواقع إلى بناء القوانين العليا الشاملة التي تضم أكبر قدر من الملاحظات (6) ويبقى هذا قانوناً يصمد حتى يأتي قانون أعلى منه بآلية الحذف والإضافة.

فيضم مجموعة أضخم من الملاحظات؛ فيأخذ القانون صفة شمولية أكبر، والعلماء اليوم يحاولون توحيد قوانين الكون في أقل عدد ممكن كما هي في محاولة آينشتاين وستيفن هوكينغ في دمج قوى الوجود الأساسية الأربعة (الكهرطيسية والجاذبية وقوى النواة القوية والضعيفة) في قانون واحد أساسي كما كان الوجود في مرحلة ولادته الأولى بعد الانفجار العظيم.

جدلية النفس والبدن:

وإذا كانت تضاريس قارة البدن قد تم اختراقها تشريحياً وكشف الأعضاء نزولاً حتى التشكيل النسجي الخلوي في مستوى تركيب الخلايا وتفاعلاتها الداخلية، فإن الفتح الجديد اليوم هو في فك تعقيد التركيب النفسي وكيف يعمل الدماغ ؟ وآليات التفكير وأين الارادة ؟ وماهو الوعي ؟ ومادلالة الحرية الانسانية ؟

هذه الاسئلة تعمل عليها مجموعة ضخمة من العلوم اليوم مثل فسيولوجيا الأعصاب والابحاث العصبية وتشريحها  والفلسفة وعلوم النفس بمدارسها المختلفة (التحليلية والسلوكية والجشتالت وعلم النفس الارتقائي وعلم النفس الانساني الحديث).

كل هذه العلوم تريد فهم الانسان (الداخلي) أو تشريح النفس وليس تشريح البدن القديم الذي قام به فيساليوس منفرداً، فتشريح النفس تحتاج مجموعات ضخمة من العلماء المتعاونين كما هو الحال في لقاء نوفمبر من عام 1995م في مدينة (سان دييغو) (SAN  DIEGO) في كاليفورنيا بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيس (جمعية العلوم العصبية) (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES) حيث اجتمع قرابة عشرين ألف عالم، شكلت عناوين الأبحاث فقط ثلاث مجلدات سميكة.

كان اللقاء يريد فك لغز جملة واحدة (من يكون أنا ؟) (WHO IS  I) (WER  IST  ICH)(7)

سباحة النفس بين قطاعات (الطبيعي) و(العصاب) و (النفاس):

النفس تسبح في العادة بين ثلاث قطاعات أو إذا شئنا للتبسيط فإنها تنتقل من دائرة الى أخرى بشكل متداخل ارتدادي سفلي هابط، أو علوي صاعد كما سنشرح بعد قليل.

منحى الارتداد للاسفل هو بين دائرة الوضع الطبيعي والعصاب (NEUROSIS) والنفاس (PSYCHOSIS) بحيث أن هناك قطاعاً مشتركاً بين كل حقلين متقاربين؛ فإذا تحركت النفس وتزحزحت أكثر باتجاه الحلقة الجديدة انخلعت من تأثير الحلقة الأولى ودخلت تحت السيطرة المطلقة للدائرة الجديدة.

لتوضيح السباحة في هذه الحلقات يمكن استخدام مثال طاقة الغضب أو الخوف أو الحزن والعاطفتان الأخيرتان هي من أشد العواطف تأثيراً وزعزعة لكيان النفس الداخلي؛ ولذلك اعتمدهما القرآن كعينات اختبارية في مدى أهمية الإيمان وجدواه لحقن الروح بالثبات والاستقرار (لاخوف عليهم ولاهم يحزنون).

الحزن عاطفة تستولي على الانسان في شيء مرَّ عليه وانقضى (لكيلا تأسوا على مافاتكم) (8) والخوف عاطفة مدمرة مربكة معيقة للتفكير السليم، مما سيحدث ويأتي مع لحظات الزمن الزاحفة باتجاهنا (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) (9)

ضرورة العواطف في حفظ البيولوجيا وخطرها عندما تطوق الروح:

الانسان يخاف وهو شيء طبيعي وضروري، إذا لم تسيطر عليه هذه العاطفة وتطوقه بحصار محكم. الخوف ضروري لأنه يحافظ على العضوية؛ فالخوف من النار والسقوط من الأعالي تقي من الموت حرقاً أو تحطيماً، ولكن زحف الروح باتجاه الخوف كثافة يجعلها تدخل الحالة المرضية، كما في صورة (الكوبي) عندما تتعرض الصفحة للتصوير باتجاه التغميق فلا تعود صالحة للقراءة.

كثافة الشعور خوفاً أو حزناً أو غضباً يربك الآليات العقلية ويسد منافذ الفهم ويدخل النفس دوامة الانفعال والاضطراب وعدم الوصول إلى الحكم السديد، ولكن انزلاق الروح باتجاه هذا المزاج السوداوي يدخلها حالة العصاب، ولكنها لحسن الحظ حالة عكوسة؛ بمعنى إمكانية الانسحاب من مخطط الانحدار إلى الحالة السوية، وانتشال الروح من قبضة التردي الروحي؛ فإذا عجزت آليات الانقاذ سقطت الروح بما يشبه الارتطام في قعر النفاس (PSYCHOIS) أو ما تعارف عليه الناس بالجنون، الذي هو انفكاك كامل عن الواقع. ولا يعرف أو يتصور الواقع الجديد الا من رآه.

يستطيع الانسان أن يخسر كل شيء: المركز والمال وحتى الصحة البيولوجية. شيء واحد يجب أن لا يخسره هو: الصحة النفسية والتوازن العقلي، لأنه مع اختلال هذه البوصلة الحساسة يكون قد تخرب معها كامل القيادة المركزية لكل شيء في الانسان.

وما زلت ذكرى تلك المرأة التي وقع نظري عليها في تجربتي الأولى محفورة في ذاكرتي، لرؤية مرضى العالم النفسي السفلي في قدر مطوق حزين للإنسان وكأنها أمام عيني حتى هذه اللحظة.

كانت جميلة رائعة شابة وأجمل ما فيها صوتها وكأنه تغريد البلابل، ولكن في عالم آخر لا صلة له بعالم الأحياء. كان انهيارها بالكامل وانفكاكها عن الواقع مأساة كاملة، بعد صدمة نفسية مروعة بعد أن اعتدى عليها خالها جنسياً. ولكن الروح لها مسار آخر باتجاه مخالف تماماً للمخطط الأول، بل هو المسار الطبيعي الانساني وليس المرضي.

أي رحلة الاكتمال الروحي باتجاه المقدس، والدين جاء لتحريض هذه الآلية عند الانسان، أي استنهاض واستنفار الانسان للصعود الروحي وتجاوز ذاته وهي تعبيرات قرآنية في الاتجاه المخالف تماماً للعصاب والنفاس، فهي صعود النفس من مستوى النفس (الأماَّرة بالسوء) إلى مستوى النفس (اللوَّامة) وانتهاءً بالنفس (المطمئنة) وهو دمج سنحاوله بعد قليل بين مفاهيم علم النفس وظلال القرآن الفكرية. ويرى عالم النفس البريطاني أن هناك قانون ينتظم حركة النفس الانسانية باتجاه تطورها الى الاكتمال.

قانون الاكتمال عند عالم النفس هادفيلد:

عرض عالم النفس هادفيلد نظريته في هذا الصدد على الشكل التالي: (لابد لكل كائن حي من أن يتحرك صوب اكتماله الخاص فكمال الحياة هو هدف الحياة؛ والحافز الى الاكتمال هو أقوى محرك ملزم فيها. وليس في الحياة محرك أشد إلحافاً من هذا النهم الى الاكتمال، سواء أكان متعلقاً بحاجات أجسامنا، أم بأعمق إشباع روحي لنفوسنا.

وإنا لنجد قانون الاكتمال فعالاً في علم وظائف الأعضاء، وفي علم النفس وفي علم الأخلاق وفي الدين. ونحن نطلق على هذا الاكتمال في علم وظائف الأعضاء كلمة (الصحة) ونطلق عليه في علم الأخلاق كلمة (الكمال) وفي الدين (القداسة) وسوف نطلق عليه في علم النفس (تحقق الذات). ألا ما أقوى هذا القانون وما أشد إلزامه إنه لا يريح الكائن الحي أياً كان الا إذا أشبع نهمه بالظفر بذاته الكاملة) (10)

وأمام ما يذكره هادفيلد وما يعرضه الامام أبو حامد الغزالي الفيلسوف والمتصوف المسلم من القرن الخامس الهجري، يمكن الخروج بشيء من التماسك في شرح الديناميكية الداخلية للنفس.

 الحلقات الخمس لحركة النفس:

في الوضع الطبيعي للنفس تمر سحب من الخوف والكراهية على الروح، وتزمجر أعاصير الغضب والحقد، وتصفر رياح العنف والعدوانية، وتهطل أمطار دموع الحزن، وتجلل النفس بغسق الاحباط والسلبية، ولكن الجو سرعان ما يصفو فترجع النفس الى صفاءها وتشرق شمس الأمل وتتفتح ورود الانسانية والتعامل بالحسنى، وتتضوع رائحة رياحين الحب.

عندما تمرض النفس تتزحلق الى الاسفل باتجاه العصاب والنفاس (الجنون) ولكن عملية التسامي هي تصعيد الطاقة باتجاه رفع النفس من مستوى أعاصير وعواصف الانفعالات باتجاه دخول أوقيانوس الهدوء الروحي، وهي الحالة المؤهلة لدخول الجنة التي وصفها القرآن بالنفس المطمئنة، تلك النفس التي تتصل بمركز منبع الطاقة في الوجود فتشحن شحناً روحياً عميقاً يبدد نوازع الكراهية ونزعات الغضب وسورات الخوف وانهيارات الحزن.

ومن المدهش في النفس أن الصعود يحتاج الى طاقة أما الهبوط فلا يحتاج إلى طاقة، والآلية التي يبدأ منها الانسان رحلة التكامل الروحي عنده هي في تنشيط آليات النقد الذاتي، وهي من أصعب الآليات على الاطلاق، لأن الانسان عنده استعداد أن يلوم جميع من حوله ويلقي بالتبعة حتى على الله، وليس عنده استعداد ولا للحظة واحدة أن يضع ولو مجرد (احتمال) تافه أنه قد يكون قد ساهم في هذا الوضع غير المرضي المهتز.

رحلة الصعود من النقد الذاتي الى النفس المطمئنة:

في اللحظة التي يروض الانسان نفسه لتصبع (لوَّامة) فإنها تكون مستعدة لدخول امتحان الآخرة عند قيام الناس لرب العالمين يوم القيامة (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) وهكذا فرحلة الحياة بين طرفين مهولين وحافتين عجيبتين، فيمكن للإنسان أن يصبح أتفه من التفاهة، ولكنه يمكن أن يصعد بدون حدود فيصبح أفضل من الفضيلة. الانسان إذا قاس نفسه الى العدم فهو كل شيء، واذا قاس نفسه الى اللانهاية فهو العدم بعينه.

فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين حافتي العدم الذي جاء منه واللانهاية التي تغمره وسيدخل فيها بعد حين (11)

هذا المزيج بين علمي الأخلاق وعلم النفس عرضته مدرسة علم الانساني الجديدة تحت صياغة نظرية (حاجيات الانسان) للوصول الى التوازن والصحة النفسية، فانتقلت من الحاجات البيولوجية مروراً بحاجة الأمن وانتهاءً بحاجة تحقيق الذات.

وجود النوع وترقية النوع:   

يذهب صاحب مدرسة علم النفس الانساني (أبراهام ماسلو) أن حاجيات الانسان ليست فقط (بيولوجية) كما زعمت مدرسة علم النفس التحليلي التي كانت (موضة) قوية متفشية في أوربا مع بداية القرن العشرين، بل يمكن بناء هرم متدرج لحاجيات الانسان، بحيث لا يتم الاستغناء عن الحاجات البيولوجية، وهكذا يحدد (ابراهام ماسلو) الحاجيات الانسانية بخمسة، تجلس في قاع الهرم وتشكل قاعدته الحاجات البيولوجية، التي تنبنى عليها بقية الحاجيات على التتالي:

أولاً: الحاجات الفسيولوجية (PHYSIOLOGICAL NEEDS)

ثانياً: الأمن الاجتماعي (SAFETY  NEEDS – SECURITY)

ثالثاً: روح الانتماء للمجتمع (SOCIAL  NEEDS – AFFILATION)

رابعاً: التقدير (ESTEEM  NEEDS – RECOGNITION)

خامساً: تحقيق الذات (SELF – ACTUALIZATION  NEEDS) (12).

والملاحظ أن التقدير هو محاولة كسب احترام الجماعة التي يعمل في وسطها، في حين أن تحقيق الذات هو إشباع ميوله الداخلية بما يخلد ذكره ويثبت تقديره في وسط الجماعة.  واليكم الدعاء العصري الذي طورته أنا؟

* اللهم نمي فينا ملكة النقد الذاتي وارفعنا إلى مستوى النفس اللوامة.

* اللهم أرحنا من نار التعصب وألهمنا روح التسامح.

* اللهم حررنا من ربقة الجمود والتحنط العقلي وعلمنا ترقية عقولنا وإحكام تفكيرنا وأن لانخاف من العلم.

* اللهم حبب الينا الحوار والبعد عن الصدام، وعلمنا فن الاصغاء للآخرين، والصبر على مخالفينا في الأفكار.

* اللهم علمنا احترام الوقت والثقة بالإنسان والرحمة بالناس وتقدير المرأة والشغف بالعلم وعشق الكتاب.

* اللهم امنحنا قدرة ضبط النفس عند شدة الانفعال ونار الغضب وكسرة الحزن وانهيار الخوف وضباب الشهوة.

آميــــــــــن

مراجع وهوامش:

(1) الصدمة (SHOCK) هي ذلك التظاهر الخطير حينما ينهار الانسان بانخفاض الضغط وتسرع النبض والتعرق البارد والشحوب وازرقاق وبرودة الأطراف والشعور بالاغماء واقتراب الأجل ، ويعرفها الاطباء جيداً ويجب إخراج المريض منها على وجه السرعة والا قضت على المصاب، بفتح الوريد وإغراق المريض بالسوائل وحقن مادة الكورتيزون الى الدوران، وأسبابها أربعة إما خسارة سوائل الجسم بالنزف أو الاسهال أو عصبياً تحت الألم والتعذيب أو قلبياً بانهيار القلب، أو تأقياً تحسسياً مثل حقن البنسلين وسواها من الأدوية التي قد تقضي على الانسان خلال لحظات.

(2) يراجع في هذا مقالتي رقم (9) بعنوان الانقلاب الكوني _ جريدة الرياض العدد 9355 تاريخ 23 شعبان 1414هـ الموافق 3 فبراسر 1994م حيث استعرضت هذه الظاهرة الكونية بالتفصيل واستندت في هذا الى كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت _ يراجع في هذا الجزء 27 الفصل السابع والثلاثين ص 114.

(3) تأمل هذه الآيات من سورة الغاشية (أفلا ينظرون الى الأبل كيف خلقت والى السماء كيفررفعت والى الجبال كي فنصبت والى الأرض كيف سطحت ؟؟) الآية رقم 17 – 20.

(4) كتاب (تجديد التفكير الديني) للفيلسوف المسلم الهندي محمد إقبال ص 145 – 146.

(5) الموسوعة الفلسفية مترجمة عن الانكليزية فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق وبإشراف الدكتور زكي نجيب محمود _ دار القلم بيروت ص 562.

(6) يراجع في هذا كتاب (منطق ابن خلدون _ في ضوء حضارته وشخصيته) تأليف الدكتور علي الوردي _ بحث المنطق الصوري وكيف كان اليونان يبحثون عن عدد أسنان الحصان ويهدرون الوقت بدون حدود، بدون أن يكلفوا خاطرهم ويقوموا بفتح فم الحصان وعد أسنانه لم يفعلوا هذا لأن الفلاسفة يبحثون الأمور بشكل عقلي مجرد، ومن هنا نفهم ثورية النظرة الاسلامية بتوجيه الأنظار الى الواقع الذي هو الصورة الأساسية للوجود التي لاتقبل التزوير.

(7) نشرت التفصيلات الكاملة لهذا اللقاء الهام وذيوله الفلسفية مجلة الشبيجل الألمانية عدد 16 1996 م ص 190-202

(8) تأمل الآيتان من سورة الحديد رقم 22 – 23 (ماأصاب من مصيبة في الأرض ولافي أنفسكم الا في كتاب من قل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختال فخور).

(9) تأمل الآية من سورة آل عمران رقم 172 (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).

(10) (علم النفس والأخلاق (تحليل نفسي للخلق) _ تأليف ج . ا . هادفيلد _ ترجمة محمد عبد الحميد أبو العزم _ الناشر مكتبة مصر ص 93) (11) يراجع في هذا كتاب الخاطرات لباسكال وقصة الحضارة لديورانت وكتاب باسكال شخصيات حيث أطلق الفيلسوف الفرنسي نفثات روحية في غاية الجمال ولعلها من أعذب ماكتب في النثر الفرنسي (12) يراجع في هذا كتاب الأمة المسلمة _ تأليف الدكتور ماجد عرسان الكيلاني _ نشر مكتبة دار الاستقامة _ ص 136 .

https://anbaaexpress.ma/wau1d

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى