آراء
أخر الأخبار

ذكرياتي من السجون البعثية..

أكتب هذه الأسطر وقد أصبحت سوريا جثة ممزقة تنهش فيها الضواري، بين ضبع إيراني، وذئب تركي، ونسر أمريكي ودب روسي

عندنا في سوريا نحتفل بعيد الاستقلال الوهمي المزعوم في 17 نيسان – أبريل من عام 1945م عيد الاستقلال السوري. ويصدف القدر أن أولد في هذه الأيام المنحوسات؟ تقول والدتي أنني ولدت والمدافع تضرب احتفالا برحيل جند الفرنساوية من الأراضي السورية.

فترة الانتداب في سوريا لم تكن طويلة مثل الجزائر التي بدأت من عام 1830م وانتهت عام 1962م. نحن في سوريا دخل الجنرال جورو دمشق في عام 1920م وكان الاستقلال 1945م. وبذا فقد امتد عمر الانتداب ربع قرن لا يزيد. ولكن هل حصلت سوريا الاستقلال الفعلي صدقا وعدلا؟

أنا رجل تجاوز السبعين من العمر ولدت في مدينة القامشلي ولا أعرف إلا أنني محاط بتماسيح المخابرات حيت تلفتت. دام ذلك تقريبا طوال عمري إلا قليلا. الفترة الناصرية كانت دولة مخابرات، والدولة البعثية العبثية بدورها كانت دولة مخابرات. الفترة القصيرة التي شممنا فيها رائحة الحرية والتعددية كانت فترة قصيرة خاطفة في العمر السياسي السوري أعني فترة الانفصال بين عامي 1961 ـ 1963م ومحاولة استعادة الوحدة دون جدوى ثم دخول سوريا في بطن الحوت بدون استغفار وتوبة.

نحن الآن في خريف عام 2024 م ويذكرني هذا الخريف بربيع عام 1973م قبل 39 سنة حين حاول السوريون الاعتراض على الدستور الذي أصدره الأسد الأب. كنت في زيارة إلى السلمية وهي تبعد عن حمص ثلاثون كم.

هي مدينة صغيرة هادئة بين حمص وحماة. تحركت يومها مظاهرة في حمص ضد مشروع دستور الأب الملفق ويومها تجرأ الرجل أن يقدم نفسه للانتخاب كرئيس جمهورية.

شجعه من شجعه تحت المثل السوري: اضرب الطينة بالحيط فإما لصقت أو تركت أثرا. وصاحبنا ترك أثرا وبنى مملكة أسدية بأنياب وأظافر وخناجر ومخابرات الحشاشين.

اقتحم رجال المخابرات علينا المنزل في ربيع عام 1973م على الإفطار غالبا من خلف تقرير سري كتبه مخبر سري قبض عليه مبلغ عشرة دولارات ونحن في منزل صديقنا أبو إقبال. دخلوا بالماشين جن. وجوههم مصفرة أيديهم مرتعشة. هتف أحدهم بي وهو مصوب الكالاشنكوف وأنا أحاول تهدئته أين مفاتيح السيارة؟ ضحكت في نفسي أنا الطالب (الفقير) أملك سيارة؟ قلت له عندي موتور سيكل! صرخ هات المفاتيح. هكذا اعتقلت أنا و(موتوري) الذي حبس معي وهو كل ما أملكه وسلموني إياه بعد سنة فكان جثة!

صعدنا إلى سيارة المخابرات أربعة أشخاص أحدهم داعية اللاعنف الشيخ جودت سعيد. الشيخ الشغلي إمام المسجد كان ناشف الريق مصفر اللون مرتبك. قلت له يا شيخي جاءتك فرصة ذهبية كنت تتمنى أن تكون قربة ماء بين يدي الشيخ جودت سعيد الآن أنت في صحبته! هز رأسه بدون جواب واضح. دخلنا فرع المخابرات في السلمية في غرف مظلمة. هناك وجَّه عنصر المخابرات كفا مدويا إلى وجنة الشيخ جودت سعيد تركته محمرا بأثر من كف أثيم فترة من الزمن.

مازالت الصورة مرتسمة في ذهني استحضرها مع أموات سوريا الحاليين ومعاناة شعبنا الجميل. اقتادونا بسرعة الليل البهيم إلى حماة ثم طاروا بنا إلى سجن المزة العسكري الرهيب في دمشق في جنح الظلام وجنود إبليس ترافقنا. قالوا إنه ممتليء وليس ثمة مكان لزائر جديد.

عرفت يومها أن مجموعة هائلة من الناس تم اعتقالها مع دفعة الشيخ سعيد الحوى الحموي الذي قاد اعتراض العلماء على مادة في الدستور حول دين رئيس الدولة! طارت بنا السيارة في شوارع دمشق الحزينة إلى فرع المخابرات العامة 273م. كان علينا هناك أن نجلد ونضرب وتكسر أسناني ونحجز عشرة أشخاص لغرفة بالكاد تتسع لثلاث. مخداتنا أحذيتنا ولحافنا بطانيتين قذرتين. نخرج للتنفس كل يوم دقائق معدودة. وكان هذا بعد  أشهر طويلة من الاحتجاز.

إنها ذكريات أليمة حزينة مع يوم الاستقلال (الوهمي) السوري. وحين خرجت بعد سنة كانت زوجتي قد شارفت الموت بالتيفوئيد فقراء بؤساء مرضى منهكين جياع طفرانين الجيوب خاوية ولا مستقبل أمامنا. لم أقوى على المشي وأنا الشاب القوي فلم يكن لي قدرة أن أمد ساقي طول فترة الاعتقال. حين أروي قصتي للبعض يقولون هذا كان يوم الخير. أما الآن فجهنم مفتحة الأبواب.

نعم لحافظ أسد وابنه من هذه السلالة الملعونة حسنة واحدة هي أنهم أدخلوا لروعنا اليقين أن جهنم موجودة على وجه الأرض لا ريب فيها ولا شك.

اليوم تتكرر الذكرى وسوريا الهامدة أقرب للموت في مجاعة ومسغبة ومخابرات ومقتلة وله الويل إن لم يحقق الاستقلال الفعلي. يا حسرة على نصف قرن من الضياع في أزقة الاستبداد الموحلة.

هل سوريا اليوم على عتبة التحرر والاستقلال الفعلي أو هكذا يخيل لي ولسوف نرى ما يأتي به الزمن. أشك جدا أن تحل أي مبادرة قيود الشعب السوري من هذا السرطان الملعون إلا التصميم والمتابعة.

قناعتي التي أميل لها وتعطيني دوما النور والأمل أن الشعب السوري في طريق الحرية ولكن الكلفة ستكون باهظة وقد يطول الصراع سنوات قادمة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

أكتب هذه الأسطر وقد أصبحت سوريا جثة ممزقة تنهش فيها الضواري، بين ضبع إيراني، وذئب تركي، ونسر أمريكي ودب روسي. فأما أيران فمازلت تلطم وتقتل السوريين أولاد يزيد، وأما الروس فتحقق لهم وضع الأقدام في المياه الدافئة، وأما اليانكي فرائحة البترول بحجة حمية الأكراد، أما بنو عثمان فهم يرقبون السماء بعيني ذئب فلا تدري نفس ما أخفي لها من تصاريف القدر؟

https://anbaaexpress.ma/ntzs0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى