آراءتمازيغتثقافة

شعرا وزجلا.. توثيق راق دقيق لتراثنا الأمازيغي الأصيل

قراءة في ديوان.. "غزيل" للشاعرة والزجالة ابتسام انفاوي

بقلم: بوسلهام عميمر

ابتسام انفاوي متعدد في واحد. “عاشقة للفنون كلها” كما ورد على لسانها في إحدى حواراتها. تهوى الشعر وتكتبه بلغة عربية متينة، قد تضطر القارئ لاعتماد القواميس لفك شفرة بعض ما تستعمله من كلمات سواء في جزء ديوانها المخصص للشعر أو الجزء الثاني المخصص للزجل.

لما سئلت عن جمعها بين كتابة الشعر والزجل أجابت بأنها تكتب الشعر باعتبارها إنسانا تعبر من خلاله عن كل ما يتعلق بالإنسان عموما، وتكتب الزجل باعتبارها امرأة مغربية قحة، تغرف قاموسها اللغوي وتيمات نصوصها من قاع خابية المجتمع المغربي الأمازيغي. فتحدثت فيه عن الجلابية البزيوية المغربية المعروفة عالميا بنعومتها وشفافيتها، ارتبط اسمها بمنطقة ابزو تصنع من الصوف والحرير الطبيعي. وعلى إيدوكان، النعل الأمازيغي بتافراوت وغيرهم بالجنوب المغربي يخصصون الجلد الأحمر للنساء و الأصفر للرجال، و تحدثت على الشربيل وعلى المريشة وعلى البلغة الملكية الزيوانية الصفراء مصنوعة من الجلد الطبيعي اللين المتين، مريح للرجل.

وتحدثت بمهارة زجلية لافتة عن جهاز العروس والمدجة والملحفة، وتحدثت عن السفناج والحلايقي والكراب والحمام و تحدثت على المنصورية، اللباس المغربي الأصيل من أزياء المرأة المغربية نشأ داخل قصور السلاطين يعرف بالزي المخزني ثم انتشر بين أفراد الشعب رجالا ونساء.

وغير هذا كثير، موغل في المحلية المغربية الأصيلة، قلة من يعرج ناحيتها. تحدثت عن كل هذا بتفصيل فني مدهش. تقول في قصيدة “الشربيل” مثلا ص129 “سيدي ذاك الشربيل ،، راغب قاصد سبيل ،، صقلي ضاوي فليل ،، ورق الحنة قنديل ،، حزام الصم طويل” إلى آخر سطر تقول “نقرة عقدها ثقيل ،، لوبان يحيي ذبيل”.

وفي قصيدة “تزربيت” ص111 تقول “تفك صوف وتنقيه وتغسلو محبة،، تتسناه ينشف وتقرشل بزهر عتبة ،، صبغ نبات وغزل يجمع خيط الكبة،، ترمي منسج علاه حرمل حما وقربى” وعلى هذا المنوال تذكر كل ما يتعلق بحياكة الزربية، إلى نهاية القصيدة تذكر فيها “زربية وحنبل ومساند عذبة”112، فمن سيعرف من الأبناء والأحفاد أدوات صناعة الزربية من “قراشل” و”مناول” و “سدا” و”اللحمة” و”النيرة” و”المدرة”، وما ترمز إليه الرسومات والأشكال التي تبدعها النساء على بساط الزربية مؤكدة أنها تحمل رموزا جميلة ودلالات عميقة فضلا عما يصاحب مراحل إنجازها من أهازيج شعبية تضفي على أجواء اشتغالهم بهجة وحماسة. فتخصيص الزجالة ابتسام الزربية بإحدى روائعها لم يكن اعتباطا، فالزربية لم تكن أبدا عند المرأة الأمازيغية مجرد بضاعة تسترزق بها وكفى، تنفض يدها منها وتنساها بمجرد الانتهاء منها والدفع بها إلى الأسواق الوطنية والعالمية.

فهي كما تؤكد مصممة لوحة غلاف هذا الديوان الفنانة التشكيلية زهيرة تيكطاط في أحد حواراتها بالقناة الثامنة، أنها تتضمن رسائل مشفرة، تقول للأسف يكتشفها الأجانب ويجهلها الأقارب إلا ما رحم ربك، حتى إن بعضها تؤرخ فيها النساء لمدة حملهن. فكل زربية لها رموزها ودلالاتها يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها. من هنا تؤكد هذه الفنانة أن تحرص هؤلاء النسوة ليوثقن زرابيهن بتوقيعاتهن لحفظ ملكيتها من تجار الثقافة ممن يستغلنها ويكسبن من ورائها الثروات الطائلة، دون الإشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى أصحابها الحقيقيين ممن سكبن في تصميمها وصناعتها دماء أجوافهن كما يقال.

ابتسام انفاوي زجالة، بفنية عالية عرجت على مجموعة من التيمات، قلما ينتبه إليها أحد. لكنها عين الفنان ليست كأية عين، خاصة وهي بحكم اهتمامها بمجال السينما والإخراج، تلتقط أدق التفاصيل، نتابع معها بعض المقاطع من قصيدتها الزجلية بعنوان “زليج” ص102، “يغطس الطين فصهارج الزوبا،، يوم وليلة فعجينة دؤوبة،، بيديه ورجليه ليلة محسوبة،، حتى يصير ملس فايض عذوبة،، مدقوق ومقطوع يمدو نوبة،، يملسو تحت شميسة مهيوبة” وعلى هذا المنوال تتابع قائلة “يشكل لوحة فنة أعجوبة،، يرشها بجبص خضوبة،، ،، ما وإسمنت بنية مسكوبة،، تجف بمحبة وهنا لقلوبا” 104.

وللإشارة فقد استطاعت ابتسام انفاوي بسلاسة أن تجمع في أضموتها هاته “غزيل” بين فني الشعر والزجل، تأكيدا منها على ما أدلت به لإحدى المنابر الإعلامية لما سئلت عن هذين الجنسين الأدبيين، إذ أكدت أن لكل منهما لوازمه وتوابله وخصائصه ودواعيه. فالشعر بالنسبة إليها كما الرسم والتشكيل والميم والسينما بحكم اهتمامها به لما تشعر في كيانها بإنسانيتها تخاطب الإنسان أينما كان ومهما كان، أما قول الزجل، فيكون لما تريد التعبير عما هو محلي مغرق في المحلية.

ومن تم فالمزج بين هذه الضربين من الفن تكامل في التعبير عما هو محلي بلغته يمتح من عمق محيطه وما هو إنساني بلغة منفتحة تكون وسيلة للتواصل مع الإنسان حيثما كان. يتضح هذا التكامل في أجلى صوره، فتحدثت عن الأب شعرا في أول قصيدة بعنوان “أبي” استهلتها بقولها “يا ماسحا على رأسي بالقبل،، ولمس من ديباج لم يزل ،، كفي ببحر كفك آمنة تنجلي،، مرآة لقارئ خطوط الأمل”3، وقالت عن الأم زجلا في قصيدة “دوحة الرمان”148 “ميمتي الغالية يا دوحة الرمان،، ريمتي السالية يا لوحة فنان ،، ،، ميمتي يا الدالية وارفة الغصان،، فهيمتي العالية خصة للعطشان”.

ويبقى تميز الشاعر أو الشاعرة مهما بلغت قوة رسائله الظاهرة أو المشفرة، ومهما كانت دلالاته وإشارته، فلن يكون شعره ذا جدوى، إذا لم تكن له القدرة على تفجير اللغة النمطية و العادية. فاللغة في حضرة الشعر تتهدم ليعيد الشاعر(ة) تشكيلها من جديد بحسب مهارته وتمكنه من ناصية صنعته الشعرية، إذ تخرج الألفاظ عن دلالاتها في شكل لوحات تعبيرية مرسومة بالكلمات، لكن بدون الإغراق في الغموض، فيفوت على المتلقي حقه في المتعة وإدراك معانيه.

ديوان الشاعرة ابتسام انفاوي، حافل بالصور البديعة تفننت في تقديم تيماته على طبق شاعري أنيق. في حوار لها تؤكد أنها عادة ما تركز عدسة قلمها على صغائر الأمور ودقائقها، تكون موضوعا لأشعارها. لنتابع معها هذه الصورة في قصيدة “اعتذار” آية في الجمال ص50 “لف ذراعيه على قبرها وسقاها باعتذار ،، ،، على الأقل كنتُّ لها حليا وبتُّ بعدها مسمار،، يصدأ ويغور كل يوم أكثر في الجدار.

ولنتأمل معها كيف تتحدث عن شعرة الزعفران بتالوين عاصمة الذهب الأحمر كما تعرف وبمهرجانها الدولي في شهر نوفمبر من كل سنة، تقول في قصيدة “الشعرة”ص72 “إكليل زهرة ملوك بلون البنفسج ،، على رأسها إعصارا به عجعج ،، شعرها الأحمر نارا ملتهبة أجج ،، كل الزهور في حضورها خدج،، ،، لشمس تالوين ناقشة منسج”.

تيمات مختارة بعناية حرصت في انتقائها على التنوع بين ما هو من قبيل الموروث الثقافي المادي والموروث الرمزي.

في هذا السياق تتوقف عند مدينة آسفي بعبق تاريخها العريق، تلقب بحاضرة المحيط الأطلسي، كانت على مر التاريخ محط أنظار كل الغزاة، اختلف في نشأتها بين كونها بربرية أو فينيقية أو كنعانية، يقول عنها ابن الخطيب عند زيارته لها فأبهرته بجمالها وصفاء بيئتها ووعي أهلها “وعليها مسحة من قبول الله، وهواؤها أطيب أهوية البلدان”، تعرف بمآثرها العمرانية وحصونها التاريخية، ذكرت الشاعرة بعضها بتعبيرات بديعة مثل قصر البحر، باعتباره اليوم ذاكرة حضارة تشهد على المشترك التاريخي المغربي البرتغالي مشيرة حتى إلى اختلاف الدارسين حول اسمها بين كونها مجرى مائي يصب فيها أو منارة يهتدى بها.

تقول “مسحور قلبي بعروس عبدة ،، منارة أو مصب اسم البلدة،، بسلام يرقد على ركبة الجدة،، بإيغود محارة التاريخ الفذة،، ،، لأدوات صيد ترقب بحدة ،، وفخار كل الأزمان عهدة ،، ،، قيل أن عقبة شيد بها رغدة ،، ،، حزام رباطات متأهبة كجعدة ،، ومعبد يهودي يدعو لوحدة ،، ،، سكر وملح بارود لمدة ،، ،، وصقور نادرة تحلق مجدا ،، ،، ،، سور برتغالي لم يكتمل بعد ،، ،، “قصر البحر” معلمة وقشدة ،، فن إيمانويلي يجيد صد ،، هجمات جشعة تتأجج حقدا ،، مخزن حبوب وسجن عندا”75 وبعد تعداد عدد من مآثرها المعمارية، أهلها لتصنف ضمن التراث العالمي، تندد عاليا متأسفة على ما تتعرض له من إهمال، وهي نموذج فقط وإلا فحالها لا يقل عن حال غيرها من المدن التاريخية معالمها في طريق الاندثار تقول بأسى وحسرة “أهمل فجرف هار يذوب هدّا ،، وقطار ينخر التحفة جلدا ،، وا أسفاه على آسفي وردا”76.

هو الشاعر أو الشاعرة عينه على حاضره بما يعج به من متغيرات وتناقضات، وعينه على ما يعانيه أهله من تناقضات، وعينه أيضا على تاريخه وما عاشه من أزمات.

فمن ينتبه لحال قرية مغربية صغيرة تقع على الحدود الجزائرية المغربية تابعة إداريا للجماعة القروية بني كليل بإقليم فجيج، يعيش معظم سكانها داخل قصرها، عبارة عن منازل ترابية هي اليوم تعاني الهجران بسبب العزلة ونقص البنيات الأساسية، لكن تاريخها عريق تدل عليه النقوش الصخرية القديمة، تحول دون اكتشافها انتشار حقول الألغام على الحدود بين الجارين للأسف. يتعلق الأمر بقرية “إيش” سبق لها أن تعرضت لحصار خلال حرب الرمال المعروفة 1963.

من كان يذكرها وطبعا ليس من أجل الذكر فقط. إلى حدود 2009 عرفت انتعاشة عقب الزيارة الملكية لها، بتخصيصها باعتمادات مالية من أجل تشييد مركب اجتماعي متعدد الخدمات وتجهيز تجزئة سكنية من أجل إعادة إيواء سكان قصر إيش. تقول الشاعرة متحسرة على حالها، “قرية خاوية تعمرها خفافيش ،، بقراب متناضحة ماء تطيش ،، تهتف بملحمة “إنيوما إليش”،، صدى جوف في الرأس وشيش ،، ،، بمويجات طلقات رشيش ،، تنادي ساكنا بدل الوحيش”77.

كما لم يفتها في ديوانها هذا أن تذكر ببعض أعلام منطقة سوس ممن تركوا بصمات لن تنسى، أعلام من مستوى “الأسطورة عموري مبارك” هكذا بهذا العنوان. عموري مبارك ومن لا يعرفه، إنه نموذج فقط وإلا فأمثاله كثر ممن أخذوا على عاتقهم الدفاع فنيا عن حياض الهوية المغربية الأمازيغية الأصيلة.

إنه أحد أيقونات الفن الموسيقي الأمازيغي، نال عن استحقاق لقب مجدد الأغنية الأمازيغية، حمل مشعلها في إطار مجموعات (أوسمان وتعني البرق بالأمازيغية) في البداية، ثم آثر بعد ذلك العزف والغناء بشكل فردي.

خلف العديد من الألبومات الغنائية والمقاطع الموسيقية وإحياء العديد من الحفلات داخل الوطن وخارجه. خصته بقصيدة موظفة فيها العديد من الأساطير من قبيل أسطورة “إيسلي تسليت” بما ترمز إليه من معاناة الحبيبين بسبب معاداة قبيلتيهما لبعضهما حالت دون زواجهما، وأكلة “أفدوز” الأكلة المفضلة لمقاومة الصقيع والبرد القارس بإملشيل تساعد على توفير الدفء للجسم لساعات طويلة، تقول في ص68 “قابلني يا “إيسلي” ملثما بعرس إملشيل ،، خربشات طرزتها “تسليت” عشقا بمنديل ،، يواري قصعة “أفدوز” في سفر جميل ،، مطيته زهرات تفاح عودها قلم يميل ،، لينقش لحنا على الرباب شرارة الفتيل”.

وفي المقابل تحدثت زجلا رفيعا عن الفنان المراكشي المعروف عبد الجبار لوزير بقصيدة في ص146، تقول في فاتحتها “هل هلالو على رياض عروس ،، لكزا لسماها تخيرات فانوس ،، ،، نكتة تسري فدمو قوس ،، سيد فرجة فكاك عبوس”.

تيمات متنوعة نالت اهتمام الشاعرة والزجالة ابتسام، فسبحت بنا في أجواء شعرها وزجلها، معبرة عنها أرقى تعبير، دون أن تغفل منارة تعليمها وحضنها الدافئ حيث تلقت أولى شهقتها على درب العلم والمعرفة، بعنوان “مدرستي الحلوة” تقول مؤكدة على بعض ما يؤهل أية مدرسة لتؤدي مهمتها التعليمية والتربوية على وجهها الأكمل “بمدرستي الحلوة غال علي قر واستثب ،، ولها تشربت مسامي أصول الأدب ،، ،، شلال تربية صفية قوم سلوكا وعطب ،، مدرسة حانية الحرف ومدرس كأب ،، يتقن نقوش تحفيز ويلطف رياح تعب ،، بأسلوب سائل يتدفق مهلا على قصب”67.

ويبقى الشعر مهما بلغت قوة مضامينه ومهما حفلت به معانية من إشارات ودلالات سياسية أو اجتماعية أو فلسفية أو ثوريته، فلن تتوشى قصائده بوسام الشعرية، ما لم تكن مضمخة بماء الشعر و معطرة بمحسناته البلاغية وبلغته الانسيابية الشاعرية. فالشعر صنو جمال القول وبديعه. فديوان الشاعرة والزجالة “غزيل” قصيدا وزجلا حافل بالصور الجمالية والتشبيهات والتناصات والاستعارات والكنايات، نقتبس من حديقته بعضا منها على سبيل التمثيل، لنتابع معها هذه الصورة البديعة في نصها المشترك بعنوان “كف لا تخون” فتستحق الإقامة في الجفون تقول ص25 “ما خلتُني يوما آدمَك بكِ المفتون ،، بك سمت روحي فأسكنتُك الجفون”.

ولنتأمل معها هذه الومضة، تترجم فيها الكثير مما يمكن أن يقال لما تناقِض الأقوال الأفعالَ تناقضا سافرا “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”. ولمقتها الشديد لهذه الآفة، استهلت قصيدة لها بعنوان “نصف دائرة” بقولها في ص53 “على حد قوله وفى وعلى حد فعله غدر”، ولتلطيف الأجواء قليلا، وبين الفينة والأخرى تطلق العنان لقلمها ليسرح بين أفنان الجمال.

في قصيدة “تانغو على الثلج” مثلا، تفننت في وصف رشاقة المتزلجين وتناسق حركاتهما و الذوبان في بعضهما وكأنهما روحان حلا بدنا بتعبير الصوفية تقول “شد على يدها فذابت بتساهل ،، في فنجانه وتناظرا في تداخل ،، انصاع بساط الجليد في تواصل ،، ،، ،، حذاؤها الحليبي في تفاعل ،، مع سواد حذائه في تكامل ،، تناسقا متزلجين حد التماثل ،، حول محور متغير وتمايل ،، رفعها فوق رأسه في تباسل ،، عائمة في حسائه بتخايل ،، لفها كورقة طائعة بتخاذل ،، رماها فتشقلبت في تطاول”43 إلى آخر سطر إذ حييا الجمهور برشاقتهما المعهودة، بقولها “ثم انحنيا وغادرا بتماهل”44. ومثل هذه الصور البديعة نلفيها في زجلها أيضا تقول في قصيدة “الحمام”ص107″فقصعة بلدية مدلوك مبلول ،، بزهر يعطر الصبايا ويقول ،، للكيس والمحكة شلى مثول”.

الديوان حافل أيضا بالتشبيهات الرفيعة، ينم عن موسوعية ثقافة الشاعرة. وهي أكثر من أن تحصى نقتبس منها هذه الأمثلة، تقول ص62 “اندس في عالمها بأمل يائس ،، كمخمل كستنائي لص وحارس” وفي قصيدة “القفص” نجد قولها ” شبابا كنجم نعس”10. وفي قصيدة “نصف دائرة” نجد تشبيهات من الدقة بمكان “رقيقة هي كفراش وعنيف هو كالغجر ،، شفافة هي كماء وغبش هو كشحم البقر”53.

وقس على هذه النماذج عشرات التشبيهات بأنواعه البليغة والضمنية من شأنها تقريب المعاني، وفي وصفها للمتزلجين تقول “كفراشي جليد في تغازل”44.

هذا فضلا عما يحفل به الديوان شعرا وزجلا من تناصات، من مختلف المشارب و الثقافات. فمن ميدان الطب نجد مثلا “كيتامين”ص62، وهو دواء معروف في الطب البيطري، وهو عادة يستخدم أساسا في التخدير خلال العمليات الجراحية يحافظ على استمرار مفعوله. و من الدين في قصيدة “اعتذار” ص50 “لم أرضع الشجاعة من أم أضناها الظهار”، يقال في حالة الغضب “أنت علي كظهر أمي” كناية على تحريمها، فحقيقته الشرعية إن لم يتبعها بالطلاق يصير عائدا، فتكفي فيه الكفارة. إلى التراث الشعبي بتوظيف “و “عشبة مريم” وصفها لي كل عطار ،، ترياقا لسموم جيناتي مبطلة للأسحار”51، وهي العشبة التي يعزى إليها الكثير من الأدوار من قبيل تحسين خصوبة المرأة، و التقليل من أعراض ما قبل الحيض، وتحسين الانتباذ الرحمي وهو اضطراب يؤثر على أنسجة الرحم مسببا نموها خارجه بدلا من داخله، كما يعزى إليها الإسهام في معالجة حب الشباب وفوائد أخرى جمة لعشبة كف مريم هاته. وظفتها باقتدار الكبار في إحدى أطول قصائد ديوانها بعنوان “اعتذار”.

وفي نفس القصيدة استدعت من أعالي جبال الهملايا نساء زنسكار “حتى هناك أتخيلك من نساء زنسكار”52، بما يعشنه من حياة نمطية لا تخرج عن مسار التقاليد الموروثة منذ آلاف السنين. فالمرأة هناك يكون عليها أن تختار في وقت مبكر من حياتها بين خيارين لا ثالث لهما الرهبنة أو الزواج. قصصهن جديرة بأن تعرف من خلال أفلام وثائقية أنجزت بشأنهن. الديوان حافل بالتناصات، نختم بهذا النموذج “نرسيس” عنونت به إحدى قصائدها ص13.

تقول في مطلعها ” دحرج عينيه في أناه ،، قطرة قطرة بمصفاه” إلى آخر القصيدة لتقول “أبادت قلما في مأساة ،، ثم تباكت في صلاة”، ونرسيس هذا أو نركسوس في الأساطير الإغريقية كان صيادا اشتهر بجماله إلى درجة الغرور وتجاهله لكل من أبدى حبه له، فلاحظت الإلهة نمسيس تصرفه فأخذته إلى بحيرة حيث رأى انعكاس صورته فيها فوقع في حبها دون أن يدرك أنها مجرد صورة له، فعجز عن تركها، فبقي يحدق فيها إلى أن مات. فسارت مثلا لكل من يفرط في نرجسيته و إعجابه بذاته.

وقبل الختم، لا بد من التأكيد على مجموعة من القضايا:

أولاها، الديوان بدون منازع يمكن اعتباره وثيقة هامة يوثق لعدد هائل من العادات والتقاليد الأمازيغية تخص ملبوساتهم ومأكولاتهم وممارساتهم في أفراحهم وأتراحهم وفي علاقاتهم وبعض حرفهم ومهنهم وخاصة ما تقوم به المرأة الأمازيغية في حياتها اليومية، بعضها مهدد بالاندثار ما لم يتم تدارك الأمر.

فالديوان من شأنه أن يسعف الباحث و يمده بالمادة الخام لينجز دراساته ويسجل ملاحظاته. أتصور مع السرعة التي تتطور بها الحياة واكتساح الثورة التكنولوجية، فأنى للأجيال اللاحقة معرفة هذا التراث الزاخر في مجالات مختلفة. ألم يكن الشعر سابقا هو ديوان العرب، اطلعنا من خلاله على الكثير الكثير من عادات القبائل وتقاليدهم.

وثيقة هامة أيضا لاحتفائها شعرا وزجلا بشخصيات كان لها حضورها الوازن في مجال اشتغالها، من أمثال المسرحية والسينمائية السعدية قريطيف المشهورة فنيا بثريا جبران، و الأسطورة عموري امبارك، و الفنان عبد الحبار لوزير وغيرهم. فما أحوج الأجيال المتعاقبة لتعرف بصمات هؤلاء في مشهدنا المغربي.

ثانيها الشاعرة والزجالة ابتسام انفاوي في شعرها كان لمحيطها اللغوي حضورا لافتا، تكاد لا تقرأ نصا دون أن تستدعي كلمات من لغتنا وثقافتها الأمازيغية. فنجد في ص60″وأدندن “تاغنجا” بدل الهروب ،، ،، على رقيم “ني نوا” في لهوب” وللإشارة ف”تاغنجا” من أبرز الطقوس الشعبية لاستسقاء المطر وقت الجفاف. و”إيسلي” “تيسليت” “أفدوز” “تكموت” “كروشا” “تيفليت ننقرت” “إيركيتن” “واياهو” “أنهاتاف”إزار”ديهيا” “تيفيناغ”، و”شيشناق” بل نجد أكثر من قصيدة بعنوان أمازيغي صرف مثل “تارامايت”، و “إيض يناير” و “تاسيلي” و “إيش”، تقول فيها ص77 “تهتف بملحمة “إينيوما إليش.

ثالثها، تجربة الشاعرة والزجالة ابتسام انفاوي في هذا الديوان، ركبت فيه المركب الصعب باتباعها مركبا أعقد مما يعرف في التراث الشعري العربي بلزوم ما لا يلزم شعرا وزجلا، مما جعلها تخوض تحدي الالتزام بالروي والقافية في كل أسطر نصوص ديوانها شعرا وزجلا وهو مما ينذر وجوده.

فإلى أي حد يمكن الأخذ بهذه التجربة، دون أن يكون ذلك على حساب المعاني المراد تبليغها لمن يهمه الأمر؟ أكثر من ذلك لها قصيدة زجلية عمودية بمعنى من المعاني، رائية بعنوان “الكاس” بحوالي ست وعشرين بيتا بين قوسين. على الشكل التالي:

يرسل ريحة البخور على جناح طيور
كاس البلار الحمر رسالة لحاملات تمور
++++++++++++
أتاي فخامة يصيب فكتافو بخور
تطير بالشعرة النفيسة للعالي وتشور

رابعها انفرادها بالجمع بين الشعر والزجل في ديوان واحد. ترى ما الدافع إلى ذلك؟ هل هي إكراهات الطبع وما يعرفه سوقه من صعوبات و تكلفة غالية مقارنة بمجموعة من الدول؟ أم هو اختيار واع، تعبيرا من الكاتبة على حرية مشاعرها في التعبير عنها بالشكل الذي يناسبها شعرا أم زجلا؟ لغة عربية أو أمازيغية؟ أو مزيجا بينهما، يعكس غنى الهوية المغربية في عمومها؟

ويبقى ديوان “غزيل” للكاتبة ابتسام نفاوي، لغناه الثقافي وثرائه يمتح من التراث الأمازيغي العريق الممتد زمانا ومكانا، ولِما يزخر به من صور بلاغية شاعرية سواء في شقه الشعري أو الزجلي، يحتاج إلى أكثر من قراءة وإلى أكثر من دراسة ومقاربة، من خلفيات متعددة بنيوية ونفسية واجتماعية وتاريخية و غيرها، من شأنها الكشف عن مكنونات تيماته و معانيه ورصد جمال أشكاله ومبانيه.

https://anbaaexpress.ma/qe15i

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى