آراءمجتمعمنوعات

الحلقات النفسية الثلاث..

كذلك العبقرية والإبداع فكلا التشكلين سواء الجنون أو العبقرية، يمران عبر الألياف العصبية الدماغية ويعبر الدماغ عنهما بواسطة الجملة العصبية المركزية..

يسبح الإنسان عادة في مشاعره مثل الخوف والحزن والشك والغضب والحياء والشهوة بين ثلاثة حقول أو قطاعات ودوائر، كل دائرة تتداخل مع التي جنبها، بحيث أننا لو أردنا أن نرسم هذه الدوائر الثلاث التي يتحرك ضمنها الفرد لقلنا: أنه شيء طبيعي أن يخاف الإنسان أو يحزن بين حين وآخر وهي الدائرة (الطبيعية) لكل إنسان، ولكنه أيضاً ومن الطبيعي أن يخرج من هذه الدوائر وهي حالة الصحة النفسية.

فإذا بدأ المرء في الدخول والبقاء أكثر فأكثر تحت تأثير مشاعر الكره والحقد على فرد ما، أو وضع ما، دخل الدائرة الثانية وهي ما تعرف في علم النفس بحالة (العصاب Neurosis) فإذا تزحلق إلى الدائرة الثالثة فلم يعد يستطيع الفكاك منها، يكون قد انتقل إلى حالة (النفاس Psychosis) أو (الذهان).

وبدأت المشاعر السلبية من التمكن منه والاستحكام بمنافذ العقل، فتصور الواقع على شكل (إجرامي تآمري شرير) وبذلك يكون قد وقع في حالة ما يعرف عند الناس بالجنون، وهي حسب تعريف عالم الاجتماع العراقي الوردي تتحقق فيها صفتان: الانفكاك عن الواقع والتصريح بذلك؟ والمجانين الذين يمشون بيننا وليسوا خلف القضبان كثيرون، كل ما علينا هو التأمل في تصرفات البشر، وتحليلها ومعرفة الدوافع الكامنة خلفها وهل هي متزنة عاقلة أم لا؟!

فأن يكره الإنسان شخصاً ما لفترة ما فإنه يقع تحت المعقول، ولكن أن يعيش على الحقد، ويتغذى بالكراهية، خاصة إن كان من أفراد عائلته، فيكره أخته أو أخاه، لا يكرهه فقط بل يكره كل ما حوله ومن وما يقترب منه بأربع أذرع! يكره الزوج والأولاد والأحفاد (من يرتبط بهم المكروه) حتى النسل السابع!!

يكره الأرض التي تقله، والسماء التي تظله، والماء الذي يشرب، والطبيعة التي تحوطه، والنباتات التي بجانب مسكنه، فهي كلها مؤشرات لاختلال عقلي يتناسب مقداره مع شحنة الكراهية وجرعة الحقد. وبهذا الانفصال عن الواقع، والانفكاك عن طبيعة الوجود، يبدأ العقل يفي العمل بكيفية مضطربة جانحة لصاحبه ولمن حوله، ويكون الحل أحيانا الإمساك المسدس، ثم التوجه إلى مصدر الخطر لإلغائه، وهكذا تقع الجريمة، ويسقط الضحية مضرجاً بدمائه، وهو لا يعرف عن طبيعة ما يعتلج في صدر هذا المجنون الخطر.

كان هذا من ذكرياتي من مشفى (مصحة الأمراض العقلية) حين رأيت المصاب بداء الزوّر (Paranoia) tتأملت الرجل غير مصدق، لأنه كان يتكلم بمنطقية، وكلام متزن متماسك، ليس مثل المرأة التي جاءت بعده والمصابة بـ (الفصام=الشيزوفرينيا) التي تحدثت بكلام مفكك، وجمل ممزقة، ولغة مدمرة، وعقل بائس، ومنطق مقيت.

إلا أن بعض الجمل التي خرجت من ثنايا حديثه كشفت عن مدى انهيار العالم الذي يعيش فيه، فهو ساعة يلبس مسوح عيسى عليه السلام، وساعة أخرى يتحدث مع شخصيات عالمية وقادة مهمين، الأحياء منهم والأموات!! كان انفصاله عن الواقع كاملاً ومأساوياً، وتردى في هوة ليس بخارج منها.

هذا الخلل العقلي الرهيب جعلني أعيد النظر في منظومة وجود الإنسان كله لاكتشاف عالم جديد يقبع في داخل كل منا، كأن الواحد فينا مجموعة من شخصيات، وكوكبة من أحياء، وزمرة من أشباح.

والآن ما الذي يحدث للدماغ حين يختل التفكير، وتمرض النفس، وتعتل الشخصية، وينحرف المزاج؟ لا شيء باستثناء هامش محدود، وقطاع صغير من اضطراب خلوي لا يعبأ به، ولا يشكل ثقلاً في الميزان، أو حسماً في القضية.

كذلك العبقرية والإبداع فكلا التشكلين سواء الجنون أو العبقرية، يمران عبر الألياف العصبية الدماغية، ويعبر الدماغ عنهما بواسطة الجملة العصبية المركزية، ولكن لا ندري تماماً كيف ولماذا وأين ومتى؟؟ وتبقى الأسئلة الكبرى معلقة، والأبحاث الإنسانية تنتظر الرد.

أين مكان العبقرية؟ أين مكان الجنون؟ أين مكان التفكير؟ كيف تتشكل الأفكار؟ كيف تتجلى العبقرية؟ كيف تترابط الجمل وتتفاعل الكلمات والمفاهيم؟ كلها أسرار، فالدماغ مازال القارة المجهولة التي لم تكتشف بعد، كما أن دماغ آينشتاين الذي أعيد فحصه مرات بعد موته، لم يكشف عن شيء غير طبيعي.

لقد اخترق الإنسان جغرافية الأرض فلم يترك جزيرة إلا وسماها، ولا محيطاً إلا وأعطاه لقبه، ولا عمقاً إلا وسبره، ولا سطحاً إلا ومشى عليه، حتى القمر رسا عليه، والكواكب القريبة بعث إليها بالأقمار الصناعية، واسترق السمع وحدق بالنظر في ملكوت السموات أعتى من الجن بواسطة الأشعة السينية والراديوية وتحت الحمراء، إلا مكاناً واحداً استعصى عليه، وناصبه التحدي، وكابر أن يفك له رموزه وأسراره، ذلك هو (الدماغ).

وما كان أعقد منه وأشد على الاستعصاء، وأكثر في المراوغة والتملص، والإفلات من قبضة التكنولوجيا والعلم الحديث، هو (عالم النفس) الذي يخطون فيه خطوات متعثرة، وببطء كبير منذ فترة قصيرة وبتطور محدود.
ذلك العالم الذي هو كيان لكل منا، وقطعة من تشكلنا، وحظ من وجودنا، حديثه العذب يناجينا كل لحظة، وهمساته تبث إلينا مع كل نفس وإفراز هورمون.

هذه المنظومة الداخلية التي تميزنا كبشر وترفعنا كبني آدم هي (النفس) المختبئة في أحشائنا، تمشي مع تدفق الدم ومرور السيالة العصبية. (ولقد كرمنا بني آدم).

هذا الميل العجيب للصعود والهبوط، الإفساد والإصلاح، لا يمكن معرفته بجهاز الضغط، ولا مقياس تحليل سكر الدم، لا بجهاز ريختر للزلازل، ولا بتخطيط القلب الكهربائي، لا بجهاز دوبلر للسيالة الدموية، ولا بجهاز الصدى الصوتي (السونار).

كل ما يعرف منه وعنه هو ما يصدر عنه من سلوك فقط، لذا لا غرابة في نشوء مدرسة كاملة في عالم النفس تسمي نفسها (مدرسة علم النفس السلوكي)، لذا احتار الكل وتجادلوا في فهم هذا العالم، الظاهر الباطن، الطافي والمستتر.

https://anbaaexpress.ma/875f1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى